مخاطر متصاعدة لعسكرة الدولة المصرية
استُبعدت، أخيرا في مصر، مدرّسات من تولي وظائف في وزارة التربية والتعليم، بعد خوضهن دورة مسبقة في الكلية الحربية، لأسبابٍ غير معروفة، وهو الأمر الذي بات يحدُث تقريبا مع كل العاملين المدنيين في الدولة قبل توظيفهم. بل وحضور الرئيس وقادة عسكريين آخرين هذه الاختبارات.
لم يكن ذلك متّبعا في السابق. كان قانون العاملين المدنيين في الدولة، ولاحقا قانون الخدمة المدنية، يتطلب شروطا تتعلق بالحالة الصحية والمؤهلات العلمية فقط، وقبلها كان طلاب الجامعات يلتزمون بحضور دورة للتربية العسكرية داخل الجامعة قبل تخرّجهم، وفي حالاتٍ كثيرة كان هذا التدريب شكليا. وأظن أن تلك الموجة الجديدة من عسكرة الدولة والإدارة غير مسبوقة، من قبل نظام عبد الفتاح السيسي منذ عام 2014، وحتى في أثناء الفترة الانتقالية التي تولى فيها المستشار عدلي منصور موقع رئيس الجمهورية المؤقت.
صحيحٌ أن المؤسّسة العسكرية لعبت دورا قياديا منذ يوليو/ تموز 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، إلا أنه، بعد عام 1956، كان هناك فصل إلى حد كبير بين الجيش والعمل السياسي، انتهى بالصدام مع وزير الحربية عبد الحكيم عامر بسبب هزيمة يونيو 67، كما أن تولي ضباط الجيش مواقع سياسية أو تنفيذية ظل استثناء في حقبة حسني مبارك، ولم يتجاوز رئاسة المدن والأحياء ومجالس إدارات الشركات المختلفة. واستمر تراجع دور الجيش في الحياة السياسية وقتها في إطار إيجاد توازن بين النظام، والمؤسّسة العسكرية، والأجهزة الأمنية، الذي اتبعه نظام مبارك. وكان هناك دور قوي للحزب الوطني في مفاصل ووزارات للدولة، وتعاظم دور رجال الأعمال وجمال مبارك، وهو ما دعم سيناريو التوريث فيما بعد، والذي واجهته المؤسّسة العسكرية بكل ثقلها. واستعان أنور السادات ومبارك بعسكريين في تولى إدارة المحافظات الحدودية وبعض الوزارات، وبدأ الدور الاقتصادي للمؤسّسة العسكرية بشكل محدود في الثمانينات بإنشاء جهاز الخدمة الوطنية في مشاريع تتعلق بتوفير بعض السلع للغذائية للجيش، ثم للمدنيين بأسعار محدودة، وامتد بعد ذلك لصناعة الأجهزة الكهربائية وغيرها.
حكومة موازية في مصر تتمثل في رؤساء الهيئات التابعة للجيش والهيئات الأخرى التي يديرها ضباط حاليون أو سابقون
مع قدوم السيسي، تصاعد هذا الاتجاه بشكل لافت في أكثر من اتجاه أهمها: صدور القوانين التي تدعم دور العسكريين، وتعطيهم مميزات مختلفة منها زيادة معاشاتهم وإنشاء صندوق جديد لتوفير الخدمات الطبية والاجتماعية للقضاة العسكريين، وإعطاء مميزات مادية متصاعدة لأسر شهداء الشرطة والجيش في الحرب ضد الإرهاب. تصعيد القيادات العسكرية لمناصب وزارية لم يكن لهم وجود فيها مثل وزارتي النقل والتنمية المحلية وزيادة حصتهم في تولى مناصب المحافظين لدرجة باتوا اغلبية في تشكيلاتها. كما عين مستشار عسكري في كل محافظة، يمتلك الكلمة الأخيرة فيها على حساب صلاحيات المحافظ. حيث أعطي الحق في عقد الاجتماعات مع قيادات المحافظة في الأحوال التي يرى فيها لزوم ذلك. ومن جهة أخرى، يكاد لا يتخذ أي قرار في شؤون الوزارات المختلفة، إلا بحضور ممثلي المؤسّسة وبشكل خاص قيادات الهيئة الهندسية التي تعاظم دورها في الفترة الأخيرة في مقابل تهميش الوزراء المدنيين، حتى في شؤون وزارتهم.
ويمكن القول إن هناك حكومة موازية في مصر تتمثل في رؤساء الهيئات التابعة للجيش والهيئات الأخرى التي يديرها ضباط حاليون أو سابقون، وتضع الأجندة الأساسية في الصحة والدواء والتعليم والاقتصاد والصناعة والإعلام، وكل المشاريع الكبرى التي يجري إقرارها. وعملياً، لا يقوم الوزراء في مصر الا بدور يشبه دور السكرتاريا، وتصوغ مؤسسة الرئاسة التوجهات الرئيسية بالتعاون مع مستشاري الرئيس، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الرئيسية.
من جهة أخرى، تم منح القوات المسلحة امتياز السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي في المحافظات، وقبلها وضعت الشركات التابعة للجيش يدها على أراض شاسعة. كما توسّعت المؤسّسة في مجالات الزراعة، والفنادق وبناء المنتجعات والإسكان، بالإضافة إلى السيطرة على البحيرات والصيد فيها.
جرى التوسّع في اختصاص القضاء العسكري بمد اختصاصه إلى كل الجرائم التي تقع على المنشآت والمرافق والممتلكات العامة والحيوية
وإلى ما سبق، صدر قرار جمهوري بحصول طالب خرّيج الكليات العسكرية على درجات مماثلة للبكالوريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية، والحاسبات والمعلومات، وإدارة أعمال النقل واللوجيستيات، وهو ما يعطي أولوية لضباط الجيش المتقاعدين للتعيين في الوظائف العليا باعتبارهم من أهل الثقة والولاء للنظام. وجرى التوسّع في اختصاص القضاء العسكري بمد اختصاصه إلى كل الجرائم التي تقع على المنشآت والمرافق والممتلكات العامة والحيوية، واعتبارًا من أكتوبر/ تشرين الأول 2021. وتصاعد الدور الذي يلعبه وزير النقل الفريق كامل الوزير وتصريحاته بإحالة مرتكبي الجرائم على الطرق إلى المحاكمة العسكرية، وسابقا إحالته 11 من قيادات وزارته إلى النيابة العسكرية بتهم سرقة وفساد، وصدرت أحكام على بعضهم بالسجن.
ومن حق الرئيس تعيين المسؤولين في المناصب القيادية، بموجب قانون الخدمة المدنية، ما يسمح له بتعيين مزيد من الضباط السابقين في مناصب مدنية رفيعة في الحكومة والقطاع العام، حال إحالتهم على المعاش، حيث سيحظون براتب مدني جديد إضافة إلى راتبهم التقاعدي العالي. وظهر هذا النهج بوضوح في التعديلات الدستورية التي أقرّت في 2019، وأكّدت وصاية الجيش على الدولة المدنية، وعلى وضع المؤسّسة العسكرية المتميز عن باقي الوزارات، خصوصا في تعيين وزيرها، وإضافة مهمة جديدة لها بـ "صون الدستور والديمقراطية والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيّتها"، الأمر الذي يعطي دورا أساسيا لها كمؤثر رئيسي في منظومة الحكم والسياسة، وعدم الاقتصار على مهام ضمان سلامة البلاد وأمنها.
تغليب معايير التمييز واللامساواة مع المدنيين يؤدّي إلى تصاعد السخط على العسكر لانفرادهم بالقرارات
ستكون هناك آثار سلبية على هذه الموجة الصاعدة والمستمرّة بإعطاء المؤسسة العسكرية الدور الأساسي في شؤون الدولة والخروج عن دورها الأساسي، ومن أهم تلك الآثار: إضعاف المؤسّسات المدنية الحكومية وتهميش دورها، وإلحاقها بتبعية الإدارة العسكرية التي ليس لديها خبرة في الملفات السياسية وشؤون الحكم. إيجاد حالة من عدم الثقة مع المدنيين وتصاعد الروح العدائية لضبّاط الجيش، كما حدث عقب ثورة 25 يناير، الأمر الذي أدّى إلى انسحاب تكتيكي للمؤسّسة والإسراع بإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. تغليب معايير التمييز واللامساواة مع المدنيين، سواء بعد تخرّجهم من الجامعات، أو في أثناء تقدّمهم للعمل بالوظائف المدنية، ويؤدّي إلى تصاعد السخط على العسكر لانفرادهم بالقرارات. عدم كفاءة العسكريين لإدارة شؤون الدولة المدنية التي تحتاج تأهيلا سياسيا من نوع مختلف، وطريقة ديمقراطية في الإدارة لا تتفق مع التربية العسكرية. يؤدّي استمرار هذه الموجة إلى تقسيم المجتمع بين طرفين، يتمتّع أحدهما بكل مصادر القوة، في مقابل طرفٍ مستضعف، ينتظر كشف الهيئة في كل شأن من شؤون الحياة. ولا يوجد هناك دولة تقوم على سيطرة مؤسّسة واحدة في غياب كامل لمبدأ الفصل بين السلطات. إيجاد حالة انتفاع للضباط والأفراد على المستويين، المادي والسياسي، وتراجع معايير الكفاءة والجدارة، في مقابل معايير الولاء للمؤسّسة والسلطة، ويؤدّي إلى توظيفهم لدعم وجود تلك المؤسّسة الضامنة لاستمرار مصالحهم.