مخاض الحريات الفردية في المغرب
لا تزال مُسوّدة مشروع القانون الجنائي الجديد في المغرب تراوح مكانها، في ظل غياب توافق حول مقتضياتها المثيرة للجدل، وتحديدا تلك التي تتعلّق بالحريات الفردية. ويعكس هذا المخاض انقساما مجتمعيا ما فتئت تزداد حدّتُه كلما استجدّ النقاش بشأن هذه الحريات وما تشهده التمثلاتُ ذات الصلة بها من تغيير. وفي وقتٍ يرى المحافظون أن توسيع هامش هذه الحرّيات لا ينبغي أن يحيد عن المنظومة القيمية التي يمثّل الإسلام محورها الرئيسَ، خصوصاً في ما يرتبط بالعلاقات الجنسية خارج مؤسّسة الزواج والإفطار العلني في رمضان، يتطلّع العلمانيون والليبراليون إلى تشريع جنائي جديد، أكثر مرونة وقدرةً على إدماج المنظومة الكونية لحقوق الإنسان في البنية الاجتماعية والثقافية المغربية.
إنه نقاشٌ تتداخل فيه الاعتبارات القيمية والأخلاقية والحقوقية والقانونية والسياسية، بشكل يكشف افتقاد الدولة والنخب الآليات الكفيلة بإنجاز تسويةٍ بين حرية الفرد من جهة وسلطة الدولة والمجتمع من جهة أخرى. ويُعدُّ القانون الجنائي الحالي أكثر القوانين دلالة، في المدوّنة القانونية المغربية، من حيث عدم تكيُّفه مع التحوّلات التي شهدها المجتمع على غير صعيد. ومما يستدعي التوقف عنده في هذا القانون أن مقتضياته المتعلقة بالحرّيات الفردية تعود إلى حقبة الاستعمار، ذلك أنّ سلطات الاستعمار الفرنسي كانت معنيّة بوضع سياسة دينية، لا تعزّز فقط هيمنتها على المغرب ومقدّراته، بل تعكس أيضاً نمط التديُّن السائد آنذاك لدى المغاربة. ومن هنا، تبقى مرجعيةُ هذه المقتضيات الجنائية، الموروثة من عهد الاستعمار، من صميم التشريع الوضعي.
في السياق ذاته، تَطرح المقتضيات الخلافية في مشروع القانون الجنائي الجديد جدليةَ الواقع والقانون في السياسة القانونية في المغرب. ويُنبئ الواقعُ أن هناك إقبالا متزايدا من المغاربة على ممارسة حرّياتهم الفردية، حتى لو تعارض ذلك مع القانون، ما يعني أن إبقاءَ هذه المقتضيات، بصيغتها الحالية، في مشروع القانون الجنائي الجديد يخلط الأوراق أكثر بين الدولة والسلطة والمجتمع، ويَحول دون تطوّر الاجتماع المغربي وربحه رهانات الإصلاح والتحديث على المدى البعيد. ولا يبدو أن هناك مخرجاً يلوح في الأفق بشأن مصير هذه المقتضيات، ولا سيما أنّ استبعادها من المشروع الجديد يلقى معارضةً شديدة من الإسلاميين، الذين يرون أنه جرى إقصاؤهم من المشاركة في إعداد المشروع. ومع غياب قنوات ناجعة للوساطة بين الدولة والمجتمع يُتوقّع أن تتسع رقعة الخلاف أكثر، بشكلٍ يذكّر بما حدث في 1999 حين انقسم المغاربة، بشكلٍ غير مسبوق، حول ''الخطّة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية'' التي قدّمتها حكومة عبد الرحمن اليوسفي ورفضها الإسلاميون والقطاع المحافظ داخل المجتمع.
يشهد المجتمع المغربي تحوّلاتٍ على صعيد أنماط الوعي والتفكير والسلوك، تجعل من الصعب القفز على أسئلة الحرّيات الفردية وتجاهلها. وعليه، يصبح المُشرِّع مطالَبا بالبحث عن توافقاتٍ تعكس ميزان القوى الحالي داخل المجتمع، الذي يميل، على ما يبدو، إلى القطاع المحافظ. بيد أن المشكلة التي تواجه الجميع تكمن في طبيعة هذه التوافقات وحدودها ومرجعياتها التي من المفروض أن تحكم أي تعديل قانوني في هذا الصدد، مع ضرورة الأخذ بالاعتبار التناقض بين القانون الجنائي الحالي وما نصَّ عليه دستور 2011 بشأن الحقوق والحرّيات، ما يطرح معضلة الشرعية الدستورية في هذا القانون.
من ناحية أخرى، يمثّل الانقسام بشأن الحرّيات الفردية مخزوناً احتياطياً من الموارد السياسية بالنسبة للسلطة، يسمح لها بالتحكّم في النقاش المجتمعي وتوجيهه، وتجنّبِ كلّ ما من شأنه أن يُخلَّ بالتوازنات القائمة. يتعلق الأمر بتحديثٍ متحكَّمٍ فيه يستمد دلالاته من المشروعية الدينية لهذه السلطة، والتي تتبدّى، بالأساس، في هيمنة الملك على الحقل الديني، بنصّ الدستور، لا باعتبار سلطته رئيساً للدولة (الفصل 42). ولكن باعتبار سلطته الدينية ''أميراً للمؤمنين'' (الفصل 41). وقد أتاح ذلك للملك محمد السادس أن يكون الفاعل الرئيس في التعديل الذي طرأ على بعض التشريعات خلال العقدين المنصرمين، وفي مقدمتها ''مدوّنة الأسرة'' (2004)، بما لذلك من دلالات سياسية.