محمد أبو الغيط: دروس في مغالبة الزمن والموت
غيّب الموت، أخيرا، الصحافي المصري الموهوب، محمد أبو الغيط، عن 34 عاما، بعد كفاح باسل للتغلب على مرض السرطان عاما ونصف العام. وقد شاركَنا أبو الغيط يومياته في الصراع مع هذا المرض اللعين، عبر تدوينات مؤلمة ومبهرة في الوقت نفسه، كان ينتقل فيها بسلاسة من الأحاديث الطبية لمشاعر وأمانٍ إنسانية تخالطه في محطّات صراعه من أجل البقاء، لذكرياتٍ في السياسة والصحافة، وميادين ثورة يناير في مصر. يقول أبو الغيط عن هذه التدوينات، والتي ستصدر قريباً في كتاب عن دار الشروق في القاهرة بعنوان "أنا قادم أيها الضوء"، "وجدتني لا أكتب يوميات مريض، بل أكتب أحداثاً ومشاعر، ما جرّبته وما تعلمته، سيره ذاتية لي ولجيلي أيضاً". رحل أبو الغيط قبل أن يمهله القدر بعض الوقت للعودة إلى الوطن، وحضور حفل توقيع كتابه الجديد في معرض القاهرة الدولي للكتاب، كما كان يحلم، في فبراير/ شباط المقبل.
حظيت بمعرفة أبو الغيط بشكل شخصي في أثناء إقامتي في لندن بعد أن انتقل إليها عام 2015 مع عائلته الصغيرة، لاستمرار عمله الصحافي بعيداً عن قمع السلطة في مصر. مثّل جيلا من الشباب المصري الذي نضجت تطلعاته مع ثورات الربيع العربي، وعكست سيرته الشخصية والمهنية مآلات الثورة، ومسارات السياسة في مصر. نبغ بشكل استثنائي في نشاطه الصحافي داخل مصر في تلك المرحلة الأولى من عمر الثورة، وعبّرت كتاباته وأنشطته الإعلامية في هذه الفترة عن أحلام جيله في بناء وطن يقوم على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ثم اضطر للانتقال إلى المنفى، مثل مئات من الإعلاميين ونشطاء حقوق الإنسان والنشطاء السياسيين في ظل التغريبة إلى المنافي التي زادت حدّتها تحت وطأة الاستبداد المنهجي بعد إطاحة الرئيس الأسبق، محمد مرسي، في 3 يوليو/ تموز 2013. لكن الحياة في المنفى بداية لفصول أخرى من المعاناة والألم التي تلازم أصحابها في صمت، وكما كتب مريد البرغوثي في كتابه "رأيت رام الله": "في المنفى لا تنتهي القصة، إنها تستأنف. في المنفى، لا نتخلص من الذعر، إنه يتحوّل إلى خوف من الذعر!". لقد حرم بطش النظام الحاكم في مصر أبو الغيط من العودة إليها حتى وفاته، وحرمت زوجته إسراء من رؤية والدها السيد حسن شهاب، عميد كلية الهندسة السابق في جامعة حلوان، الذي يستمر اعتقاله في مصر في قضايا ذات طبيعة سياسية منذ عام 2013.
أتقن أبو الغيط الصحافة الاستقصائية، ونالت أعماله جوائز دولية مرموقة
رحلة عمر قصيرة قضاها محمد أبو الغيط، لكن آثاره ورصيده الملهم باقية لأجيال قادمة من الصحافيين والكتاب في مصر والعالم العربي. لقد أبدى اهتماماً خاصاً بإدماج النضال من أجل حقوق الإنسان في عمله الإعلامي، حيث جمع بين سحر الكلمات ورشاقتها وقوة الرسالة الأخلاقية التي ميزت كتاباته وأعماله الصحافية، ونشاطه البارز في الإعداد التلفزيوني. وحرص على توظيف مهاراته ومنابره الإعلامية بكل إتقان في الدفاع عن حقوق الإنسان، والتعبير عن هموم البسطاء والمهمشين.
أتقن أبو الغيط الصحافة الاستقصائية، ونالت أعماله جوائز دولية مرموقة. ويستوقفني بشكل خاص التحقيقات الاستقصائية التي أنجزها، وامتدت آثارها الإعلامية والسياسية بشكل عابر للحدود. ففي عام 2019، أصدر تحقيقاً استقصائياً مصوّراً أنتجته شبكة أريج للصحافة الاستقصائية وبثته قناة دويتش فيله الألمانية، بعنوان "المستخدم الأخير"، كشف وزملاؤه فيه الآثار الإنسانية الجسيمة لصفقات الأسلحة التي أمدّت بها الولايات المتحدة وسويسرا والنمسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا وصربيا وبلغاريا كلاً من السعودية والإمارات لدعم حربهما في اليمن، وكيف أن هذه الأسلحة انتهى بها المطاف إلى أن تستخدمها بأشكال مخالفة للقانون الدولي فصائل متقاتلة في اليمن، منها تنظيما الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة. وكانت صحيفة الغارديان البريطانية وغيرها من وسائل الإعلام الدولية قد تبنّت نشر نتائج هذا التحقيق الذي فاز في ديسمبر/ كانون الأول 2019 بجائزة ريكاردو أورتيغا للصحافة المرئية والمسموعة، والممنوحة من الأمم المتحدة. وقد أمد هذا التحقيق الاستثنائي بمادة مهمة اعتمد عليها فريق الخبراء البارزين الدوليين والإقليميين بشأن اليمن في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة.
رحلة عمر قصيرة قضاها أبو الغيط، لكن آثاره ورصيده الملهم باقية
وفي تحقيق استقصائي آخر، نشرته شبكة غلوبال ويتنس عام 2020، كشف أبو الغيط عن الشبكة المالية الدولية السرّية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في السودان، وهذه من الفصائل العسكرية التي تتحمّل مسؤولية عن جرائم وانتهاكات جسيمة ارتكبت في السودان عقودا، ولعبت قيادتها دوراً سياسياً مجهضاً للتحوّل الديمقراطي في السودان منذ عام 2019. نشر التحقيق معلومات تفصيلية عن حجم المساعدات المالية التي تلقتها قوات الدعم السريع من الإمارات، وتورُّط قياداتها في سلسلة من الأعمال التجارية غير المشروعة.
سيبقى أثر أبو الغيط بيننا بإبداعاته في مجال الصحافة والإعلام، وشجاعته في مواجهة مصاب المرض بإرادة البقاء واستمرار العطاء، وقدرته الفائقة على تحويل مشاعره في تلك الفترة الصعبة إلى كتابة ملهمة حتى لحظات حياته الأخيرة، فكانت الكتابة بالنسبة له، وعلى حد تعبيره، "محاولة لمغالبة الزمن والموت". إنها حياة قصيرة ستظلّ تذكّرنا تفاصيلها بمسار حياة جيل ميادين الثورات العربية الذي تشتت بين السجون والمنافي في حلم انتصار قيم الربيع العربي يوما ما.