محكمة اتحادية مسيسة عبر دستور عراقي مخترق
التسمية الأكثر والأفضل لشرح الوضع العراقي لا تتجاوز أنه استلاب الدولة والصراع لأجل استدامة الصراع الأهلي، حيث منطق اللادولة، وإنْ تحدثت النخب السياسية عن الدولة بالمفهوم السياسي - الإداري - العسكري، فهي لا تخرج عن كونها نكتة سمجة، فلم تنجح أي حكومة في أداء وظيفتها في فرض هيبة الدولة وعظمتها؛ كونها (الحكومة) هي أساسا سبب البلاء في تفسّخ النسيج السياسي وتغذية كارتيلات السلطة ضمن ذاتها، وبل هي الداعمة الرئيسية للسلاح المنفلت، ثم ضبط السلاح في جماعات غير منضبة ضمن أي هيكلية دستورية، وبل إنها السبب المباشر في تغوّل "قوى اللادولة"، وسيطرة إيران على الحياة العراقية بتفصيلاتها وجزئياتها الدقيقة، وبقيت الحكومات المتعاقبة على سدّة الحكم في العراق مرتخية وضعيفة، ولا قوة لها أمام كل الخارجين عن القانون والسلطة الموازية لها. ومن كان يتباكى على مكوّنات العراق، ويحذّر من أي اقتتال أهلي، هم اليوم الطرف الأساس في زيادة وتيرة العنف ضمن المجتمع العراقي، ففشلوا في الانتخابات، وطعنوا بها، ثم تكتلوا ورفضوا تكتل الآخرين، إلا بما يحفظ لهم وجودهم، بعد أن بدّدت الجماهير ماء وجههم.
ما يجري في العراق، منذ عشية الإعلان عن نتائج انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021 البرلمانية لا جديد فيه سوى تغيير قواعد المواجهة وتبديل الغطاء، واستمرار صراع السيطرة على النفوذين، المالي والسياسي، تحت ستار التوافق؛ فهو صراعٌ يمتاز ببنية معقدة ومركّبة ومتداخلة، حيث قوى عراقية شيعية مرتبطة بطهران، ومتعاكسة في بغداد، وقوى سنّية تعارض نظيرتها الشيعية، وتضطر للتوافق معها، ورغبة واضحة لتحجيم النفوذ الكردستاني قابلتها رغبة الكُرد أيضاً في توسيع النفاذ السياسي، والسيطرة على القرار أو المشاركة فيه، سواء خوفاً من إعادة سيناريوهات الأنظمة العراقية السابقة، أو رغبة في مشاركة بناء العراق الجديد، وكل تلك القوى بقيت تخشى وتخاف من بعضها البعض، لكنها تضطر للتعامل والتوافق السياسي. وفي خلفية تلك السنوات، كبرت الجماعات المسلحة ذات الهويّة الغائبة دستورياً، وواضحة التوجه الهويّاتي ممارساتياً، والصراع العراقي، هذه المرّة، أكثر مرارة، فارتدادات خسارة الكتل السياسية المقرّبة من إيران في الانتخابات، أخيرا، مزّقت تحالف الكتل السياسية من الداخل، كما يحصل لدى التحالف الكردستاني، والبيت الشيعي، والتوافق السني.
المعركة الأساسية هي التدخلات الإقليمية التي جعلت من العراق ساحة لتصفية الحسابات التاريخية، وسوقاً سياسياً لتصريف الخلافات
المشهد تراجيدي فعلاً، وبعد نجاح ثورة الشباب العراقي في كسر طوطم الانتصار الأبدي لتلك الكتل، وجعلت من كُل حملاتهم وتلاعبهم بالدستور وبالاً عليهم، وبعد أن منيت بأربع خسائر متتالية: نتائج الانتخابات، عدم تمكنها إلغاء نتائجه، فشلت في إعادة عجلة الانتخابات، لم تتمكن من السيطرة على الشارع. عاد المهزومون دستورياً عبر صناديق الاقتراع، والمدافعون عن السلطة الخفية ضمن الحكومات العراقية، إلى المحكمة الاتحادية. المفارقات شديدة القسوة والوضوح، من أول الهرم إلى آخره، سرقوا مقدرات هذه البلاد، وساهموا في تحويل العراق إلى حلبة صراعٍ إقليمي، ونكّلوا بالدستور بشكل مستدام. ويدرك العراقيون أن هؤلاء مسؤولون عن مأساتهم. ويعلم المسؤولون أن الشارع العراقي مدركٌ هذه الحقيقة، لكنهم يستمرّون في "التقية السياسية"، والسيطرة على حيوات جيلين كاملين ومقدّراتهما، لتصبح أكثر المواضيع مهيجة للخطر والحرب الداخلية، هو ما فعلته الكتل السياسية بالدستور العراقي، فالكل اخترق الدستور، ولعل أكثر مساحات الأمان توفراً لمخترقي الدستور ومنتهكيه هي مساحة دعوة تطبيق الدستور للمحاسبة.
لا يخفى أن المعركة الأساسية هي التدخلات الإقليمية التي جعلت من العراق ساحة لتصفية الحسابات التاريخية، وسوقاً سياسياً لتصريف الخلافات والمشاريع المدرّة للأرباح المالية والمنافع السياسية، لتأتي الأدوات المحلية وهدر مزيد من الدماء لترسيخ معركة فرض السلطة والنفوذ، ووجدت الكتل العابرة للهويّة العراقية ضالّتها بالمحكمة الاتحادية، ففي الأيام الماضية توبعت مجريات قرارات المحكمة الاتحادية العليا بخصوص منع ترشيح هوشيار زيباري لمنصب رئيس جمهورية العراق، بحجة وجود دعاوى قديمة ضده، وعدم دستورية قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان الصادر لعام 2007، وإلزام الإقليم بتسليم الإنتاج النفطي إلى الحكومة الاتحادية، بسبب وجود دعويين ضد الإقليم في 2012، و2019، والمحكمة الاتحادية العليا هي أعلى محكمة في العراق، تختصّ في الفصل في النزاعات الدستورية. وقد أُنشئت المحكمة الحالية في2021، وبقيت الدعاوى كُلها من دون البتّ بها، حتّى أقترب موعد التصويت لرئاستي الجمهورية والوزراء، وهي نفسها المحكمة التي تناست أن نفط الجنوب وموارد ميناء البصرة يُعدّ هبّة عراقية لبعض دول الجوار والفساد المنظم، ما يثبت "تسييس المحكمة"، خصوصا مع المادتين 112و115 من الدستور العراقي الذي ينصّ على شراكة الإقليم مع المركز في ملف النفط والغاز، وأولوية القوانين التي تُصدرها الأقاليم على قرارات المركز، فيما يخص النفط والغاز في كل خلافٍ بينهما. وبعد هدوء ثلاث سنوات، أُعيد تحريك ملف الطاقة بين المركز وحصراً إقليم كردستان، دوناً عن باقي المناطق، للنّيل من مرشّح تحالف الهويّات لرئاسة الجمهورية ودعاة الحكومة القوية عن تحالف "عزم- تقدم- البارتي- الصدر"، وهو خليط سني، شيعي، كُردي، مسيحيين، تركمان.
المفارقة الكبرى أن يتجه كردستان العراق إلى فقدان الهويّة الكردستانية الجامعة في البرلمان العراقي
قضية هوشيار زيباري وقانون النفط والغاز انتقام معقد لا يمكن تفكيكه بسهولة، فهؤلاء ينتقمون من مقتدى الصدر لدفاعه عن تحالفه مع البارزاني، ورفضه التوافق والتحالف مع "الإطار التنسيقي"، وينتقمون من السنة لإصرارهم على تبنّي مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني لرئاسة العراق، وينتقمون من الحزب الديمقراطي الكردستاني لمواقفه القومية الوازنة والمتوازنة مع البعد الوطني الذي يئس منه، ومن إيجاد هويّة جامعة للعراقيين. والمفارقة الكبرى أن يتجه كردستان العراق إلى فقدان الهويّة الكردستانية الجامعة في البرلمان العراقي، فالاتحاد الوطني الكردستاني يقف في الطرف المقابل، ويشارك في الصراع السياسي، وإصراره على عدّم تبديل مرشحه الذي لم ينل 150 صوتاً، يعني، من بين ما يعنيه، عدم الفوز أو "لم يضحك أخيراً". وفي العموم، فوز أي من مرشحي الاتحاد الوطني أو الكردستاني الديمقراطي بدون سند كردي وازن سينعكس سلباً على قوته والقوة الكردية في بغداد، وسيعني تراجعا كبيرا للدور الكردستاني في بغداد، خصوصا وأن الخلافات بشأن ملفات محورية، كطبيعة العلاقة بين الإقليم والمركز، وقانون النفط والغاز، والميزانية، والمناطق الكردستانية خارج سيطرة الإقليم، مناطق الـ140.. إلخ بحاجة إلى كتلة كُردية صُلبة متوافقة ومتراصّة، وهي المفقودة أصلاً بين الأحزاب الكردية الواصلة إلى البرلمان العراقي.
الصراع على رئاستي الجمهورية العراقية ومجلس الوزراء يرتبط مباشرة بالرؤى السياسية المستقبلية لمصير كردستان وشعبه
تتجه اللوحة العراقية صوب اقتراب الانفجار الأعظم، وهو بطبيعة الحال جزء من حالة الغليان السياسي والشعبي والأمني والعسكري في عموم دول الربيع العربي، وبيان رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني، واضحٌ بخصوص قانون النفط الغاز وتخيير القوى السياسية العراقية بين احترام حقوق شعب كردستان، أو أن كردستان مستعدّة لدفع كل ما يلزم للدفاع عن حقه، وإعلانه عن المرشّح الجديد لرئاسة العراق يدخل في الخانة نفسها، ولعل الاتحاد الوطني الكردستاني يساهم في إنقاذ الموقف، ويعلن عن ترشيح شخصية توافقية، ويبدي موقفاً في مواجهة قرار المحكمة الاتحادية بشأن قانون النفط والغاز الذي يضرّ كل الإقليم، وليس "البارتي الديمقراطي" فقط.
قصارى القول: الانسداد الحاصل في العملية السياسية أتى على كامل العراق، ولم تسلم منه القوى الكردية الممزّقة أصلاً، وهي حالة تنعكس سلباً على مجمل قضايا الإقليم الداخلية من جهة، ومن جهة ثانية على مصالحها في بغداد، وهو ما لا يمكن الاستمرار فيه، خصوصا أن المحكمة الاتحادية أفصحت عن توجهاتها "المبّيتة"، ومن الممكن أن تُكثر من وضع العراقيل في كل مناسبة. والصراع على رئاستي الجمهورية العراقية ومجلس الوزراء يرتبط مباشرة بالرؤى السياسية المستقبلية لمصير كردستان وشعبه، ودور العراق ومكانته في الاصطفافات الإقليمية المقبلة.