محاولة للعبور من "نَفَق الهالك"
تصلح الأحكام الصادرة ضد مرشد الإخوان المسلمين وقيادات في الجماعة في القضية المعروفة باسم "أحداث مكتب الإرشاد" عنوانًا صارخًا للعدالة المعوجة في مصر، ذلك أنه تم تأييد عقوبة السجن المؤبد في قضيةٍ طبخت في ذروة الفاشية العسكرية التي انتعشت مع الانقلاب على الرئيس محمد مرسي.
أول ما يتبادر إلى الذهن حين تذكر عبارة "أحداث مكتب الإرشاد" هو ما جرى في منطقة المقطّم، حيث مقر الجماعة قبل الانقلاب العسكري بثلاثة أشهر، حين توجّهت جموعٌ مما تطلق على نفسها "القوى الثورية المدنية"، وارتكبت جرائم وفظائع ضد المنتمين للإخوان، لا تختلف في بشاعة مشاهدها عما تنقله وسائل الإعلام من مشاهد التطهير العرقي في بورما وإقليم الإيغور.
رأينا، في ذلك اليوم البائس من شهر مارس/ آذار 2013، صورًا لإشعال النار في منتمين للإخوان المسلمين وهم أحياء. ورأينا وجوهًا غارقة في دمائها. وشاهدنا المحامي الحقوقي خالد علي وهو يحاول انتزاع رجل في الستين من عمره من بين براثن "القوى الثورية"، المنتشية بالتحالف مع الثورة المضادة، والواثقة في أن أمن الدولة العميقة لن يحرّك ساكنًا.
تلك الجمعة، كما وصفتها في ذلك الوقت "كانت جمعة الاستقالة النهائية من الثورة، والانسلاخ التام من الآدمية، وتشييع الإنسانية إلى مثواها الأخير .. جمعة الانفلات من البشرية والغوص عميقا فى قاع "البهائمية" كانت".
وأضفت مستعيرًا تعبيرًا من الأديب محمد المخزنجي "بعد مشاهدات ليلة الانحطاط الثورى فى المقطم، لن تجد تعبيرًا أوقع من مصطلح "البهيمة البشرية" لوصف ما جرى، لكن الكل قبل التوصيف ينبغى أن يشغلوا أنفسهم وضمائرهم بسؤال أهم: من الذى أدخل ثورة الكرامة الإنسانية إلى خرائب البهيمة البشرية؟".
الحاصل أننا، بعد أكثر من سبع سنوات من تلك الواقعة، صرنا أكثر استحقاقًا للتعبير الصادم أعلاه، وبات من الممكن أن تنام وتستيقظ في الصباح لتجد نفسك متهمًا بأنك مثل أحمد موسى، أو إيدي كوهين، وعليك أن تبحث لك عن دين آخر، لأنك دعوت بالرحمة لأحد الميتين من الخصوم الجذريين.
أعلنت سابقًا أنه في اللحظة التي تبيح لنفسك استعمال مفردة "نفق" للتعبير عن موت إنسان هو خصمك، فإنك تنقل نفسك إلى تلك الحالة "البهيمية"، وتمنح الآخرين الحق ذاته في الانحطاط إلى القاع، ونهش جثث الموتى وافتراس أرواحهم، ووصمك بالنفوق حين ترحل بعد عمر طويل. لأنك ببساطة تلحق نفسك بعالم الحيوان، حين تصف إنسانًا، مثلك، بأنه نفق.
في حدود معلوماتي المتواضعة، لا يوجد في أي دين نصٌّ يعاقب البشر على ترجّي الرحمة لميتين، حتى لو كانوا خصومهم، فما بالك بأتباع دين يعبدون ربًا اسمه "الرحمن الرحيم"، ويؤمنون برسول أرسله ربه "رحمة للعالمين". وعلى الرغم من ذلك، ما إن يسمعوا عبارة "الله يرحمه" لمناسبة موت خصم لهم يركبهم ستون عفريتًا، ويتناوبون نهش الناعي وتكفيره وتخوينه واتهامه بالعمالة.
أحد البؤساء أجهد نفسه كثيرًا في إرسال تصريحٍ ملفق للمذيع أحمد موسى، يعلن فيه إعجابه بتغريداتي الأخيرة، وتواصله مع عبد الفتاح السيسي، لإعادتي إلى مصر.
عقور آخر من جماعة "نفق الهالك"، أرسل إلي كلامًا للصهيوني إيدي كوهين، الذي صار له صبيان في تلك القنوات الموجودة في تركيا، يدعوهم إلى مؤتمرات في الكيان الصهيوني، ويساعدونه في تعقب غير المطبعين، ويحتفون بتغريداته وتصريحاته، أرسل إلي هذا العقور كلامًا لإبدي كوهين، ينعي فيه محمد العصار .. إذن أنا صرت متصهينًا مثل إيدي كوهين.
لا بأس أيها المستمتعون بالإقامة في "نفق الهالك"، استمروا في جهادكم لنصرة الدين، ونضالكم الثوري، وواصلوا انتفاضتكم الباسلة لإسقاط الانقلاب بالسقوط إلى قاع التوحش والبذاءة، فالخطْب جلل والمصيبة فادحة: هناك شخصٌ صبأ وتجرّأ على لاهوت الغل، ودعا بالرحمة لأحد الخصوم.
أكرر أنني سأظل أرجو رحمة الله لموتانا، حتى لو كانوا خصومي وهم على قيد الحياة. وسأبقى كما أنا، لا أتعارك مع الموتى، سواء كانوا راقدين في القبور، أو لا بدين في خرائب الكراهية والغل والبذاءة، وسأبقى معتزًا بالانتماء إلى قيم دين بعث الله رسوله رحمة للعالمين.