"مجزرة" تفجير شبكة اتصال حزب الله... الدلالات والتداعيات
أعلن حزب الله عن استهداف قاعدة رامات ديفيد الجوية جنوب مدينة حيفا، إلى جانب مواقع عديدة أخرى في الجليل والجولان، بعشرات الصواريخ، ردًا على الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة التي استهدفت مختلف المناطق اللبنانية؛ وكان آخرها الغارة التي شنتها إسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم 20 أيلول/ سبتمبر 2024 وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى، بينهم العديد من المدنيين. وكان لبنان شهد يومَي 17 و18 أيلول/ سبتمبر موجة من التفجيرات، استهدفت أجهزة اتصال محمولة، بما في ذلك أجهزة نداء آلي (بيجر) وأجهزة لاسلكي، يستخدمها عناصر من حزب الله، على نطاق واسع، للتواصل بينهم. وأدت هذه العملية الإرهابية الواسعة النطاق إلى مقتل ما لا يقل عن 39 شخصاً، وإصابة آلاف آخرين. واتهم حزب الله إسرائيل بتدبير التفجيرات التي شملت مواقع متعددة في أنحاء لبنان، وتسببت في فوضى واسعة، في حين أشارت إسرائيل إلى "مرحلة جديدة" من المواجهة، قد تكون مقدمة لصراع أوسع وأكثر عنفًا.
واقعة التفجيرات
بدأت موجة التفجيرات التي استهدفت أجهزة نداء (بيجر) يستخدمها عناصر حزب الله، في وقت واحد تقريبًا، في لبنان وسورية بعد ظهر يوم 17 أيلول/ سبتمبر. وكان الحزب قرر التحول إلى استخدام أجهزة النداء هذه باعتبارها وسائل أكثر أمنًا للتواصل بين عناصره ومقاتليه لأنها لا تتضمن تقنية تحديد المواقع GPS، ولتكون بديلًا من الهواتف النقالة التي تم حظر استخدامها نتيجة اختراق إسرائيل لها؛ ما مكنها من استهداف المئات من عناصر الحزب وقادته الميدانيين منذ اندلاع المواجهة بين الطرفين في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، في إطار ما أسماه حزب الله "جبهة إسناد غزّة". وشهد اليوم التالي موجة تفجيرات ثانية، استهدفت هذه المرة أجهزة اتصال لاسلكية يدوية يستخدمها عناصر وقيادات ميدانية من الحزب في مناطق مختلفة.
وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تعلن مسؤوليتها عن التفجيرات، خاصة أن دبلوماسيين دوليين ومنظمات حقوقية عبّروا عن إدانتهم للعملية باعتبارها عملًا عشوائياً مداناً، ينتهك قوانين الحرب، فإن مصادر أمنية وإعلامية ومسؤولين إسرائيليين ألمحوا إلى أن الجيش الإسرائيلي، بالتعاون مع جهاز المخابرات الخارجية، "الموساد"، يقفان وراء العملية. وقد شكلت الحادثة بالنسبة إلى حزب الله أكبر خرق أمني منذ نشأته مطلع الثمانينيات، وزادت من المخاوف بشأن توسيع الحرب، خاصة بعد أن توعد الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، بالردّ على ما اعتبره "مجزرة" ارتكبتها إسرائيل.
تنقل إسرائيل تركيزها إلى جبهة لبنان لفرض قواعد اشتباك جديدة مع حزب الله، وإحداث تغيير عميق في الوضع الأمني على الحدود
عملية أمنية معقّدة
بحسب مصادر متعددة، فقد جُلبت أجهزة النداء (بيجر) من طراز AR-924 إلى لبنان في وقت سابق من هذا العام، وذلك بعد أن حظر حزب الله استخدام أجهزة الهاتف النقال داخل مجموعاته القتالية، وبين أفرادها نتيجة اختراق إسرائيل لها. وقد نفى مؤسس شركة غولد أبولو Gold Apollo التايوانية المصنعة لهذه الأجهزة أن تكون شركته صنّعت أجهزة النداء المستخدمة في الانفجارات، مشيرًا إلى أنه قد صنّعتها في أوروبا شركة BAC Consulting KFT، وهي شركة مجرية مُصرح لها باستخدام العلامة التجارية لـ"غولد أبولو" لإنتاج أجهزة البيجر في بعض المناطق. أما أجهزة الاتصال اللاسلكية التي تم استهدافها في اليوم التالي (18 أيلول/ سبتمبر) فقد، أظهرت صورها ملصقات تحمل شعار شركة "ICOM" اليابانية المتخصصة في تصنيع معدات الراديو. ولم تتمكن الشركة، التي تصنع أجهزة الاتصال اللاسلكية الخاصة بها في اليابان، من تأكيد إن كانت هي التي قامت بشحن أجهزة الاتصال اللاسلكية التي انفجرت في لبنان؛ لأنها توقفت عن إنتاج هذا الطراز منذ عشر سنوات. بالتزامن، تبيّن أنّ وكالات أمنية بلغارية تحقق في دور شركة مسجلة لديها تحت اسم "نورتا غلوبال-Norta Global" ومقرها صوفيا ربما أدت دورًا في بيع أجهزة البيجر لحزب الله.
ومن المرجّح، بحسب ما كشفت عنه صحيفة نيويورك تايمز، أن شركة BAC Consulting المجرية، التي ارتبط اسمها بتفجير أجهزة النداء في لبنان، لم تكن سوى واجهة إسرائيلية، مرتبطة بشركتين أخريين وهميتين على الأقل تم انشاؤهما لإخفاء الهوية الحقيقية للجهات التي تقف وراء تصنيع أجهزة البيجر. ووفق ما جاء في الصحيفة فإن الشركة المجرية كانت تستقطب زبائن مختلفين، مع التركيز خصوصًا على حزب الله الذي تم تصنيع صفقة أجهزة الاستدعاء الخاصة به على حدة، بحيث تحتوي على بطارية مربوطة بكمية من المتفجرات تم زرعها في الأجهزة. وقد بدأ شحن أجهزة البيجر إلى لبنان في صيف 2023، أي قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، بأعداد صغيرة. لكن بعد أن تبين لحزب الله وحلفائه أن الاتصال بالهاتف المحمول، وحتى الرسائل المشفرة، ما عاد آمنًا، خصوصًا بعد أن حذر أمينه العام، في خطاب في 13 شباط/ فبراير 2024، عناصره من أن هواتفهم أشدّ خطراً من جواسيس إسرائيل، زاد الطلب على أجهزة البيجر، ووصل الآلاف منها خلال الصيف إلى لبنان، وجرى توزيعها على عناصر الحزب وحلفائه، في إجراء وقائي.
مركز الثقل ينتقل شمالاً
تدور الاحتمالات بشأن توقيت حصول التفجيرات الخاصة بأجهزة الاتصال الخاصة بحزب الله حول سيناريوهَين رئيسَين: الأول، أن إسرائيل قررت تفجير هذه الأجهزة بصفة مستعجلة يوم 17 أيلول/ سبتمبر بعد أن بدأت الشكوك تساور جهات أمنية في حزب الله بشأنها، فسارعت إلى تفجيرها حتى لا تخسر العملية التي كانت معدّة أصلًا، بحسب بعض التقديرات، لشلّ منظومة القيادة والسيطرة لدى الحزب عشية هجوم كبير محتمل على لبنان. وقد يفسر ذلك وقوع التفجيرات بعد يوم واحد فقط من التقاء المبعوث الأميركي أموس هوكشتاين، المسؤول عن ملف المفاوضات بين لبنان وإسرائيل، بكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب يوآف غالانت، في محاولة جديدة من إدارة جو بايدن لمنع حصول تصعيد كبير بين إسرائيل ولبنان، قد يتحول إلى حرب إقليمية واسعة، لا تريدها واشنطن قبل أسابيع قليلة من انتخابات رئاسية حاسمة. لكن استمرار حزب الله في توزيع أجهزة البيجر حتى قبل أيام قليلة من عملية التفجير، بحسب مصادر إعلامية مختلفة، يضعنا أمام سيناريو ثانٍ، أكثر ترجيحًا، يقول إن إسرائيل تعمدت تفجير أجهزة الاتصال لدى الحزب في هذا الوقت تحديدًا، حتى يرضخ للضغوط التي تمارسها عليه عبر هوكشتاين، لفكّ الارتباط بين جبهة لبنان وجبهة غزة، خصوصًا بعد أن قرر مجلس الوزراء الأمني المصغر في إسرائيل (الكابينت) جعل إعادة المستوطنين إلى منازلهم في الشمال هدفًا رئيسًا للحرب. وعشية هذه العملية غير المسبوقة في النوع والحجم، تسابق غالانت ونتنياهو في إصدار بيانات تتحدث عن انتقال مركز ثقل العمليات العسكرية شمالًا، وإعادة المستوطنين إلى مناطقهم. وقد جرت ترجمة هذه التصريحات من خلال نقل الفرقة 98، من قطاع غزة إلى الحدود مع لبنان لتنضم إلى تشكيلاتٍ أخرى، بما فيها الفرقة 36، المتمركزة في الشمال في مواجهة حزب الله.
دلالات الهجمات وتداعياتها
على مدى عام تقريبًا، منذ اندلاع الحرب على غزّة، وقرار حزب الله فتح جبهة لإسناد فصائل المقاومة الفلسطينية، بقيت المواجهة بين لبنان وإسرائيل تجري ضمن قواعد اشتباك متركزة أساسًا على جانبَي الحدود بعمق يراوح بين خمسة وعسرة كيلومترات، على الرغم من خروق قامت بها إسرائيل في العمق اللبناني، كما حصل في عملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية لبيروت في كانون الثاني/ يناير 2024. لكن إسرائيل، مع تراجع حدّة العمليات العسكرية في غزة خلال الأسابيع الأخيرة، أخذت ترفع درجة التصعيد كثيراً في الشمال، حيث استهدف القصف الإسرائيلي مواقع لحزب الله في أنحاء لبنان، شملت معاقله في بعلبك والبقاع والهرمل وغيرها، وصولاً إلى اغتيال القائد العسكري للحزب فؤاد شكر في حارة حريك، في بيروت، أواخر تموز/ يوليو 2024.
والواضح أن إسرائيل تنقل تركيزها إلى جبهة لبنان، بعد تراجع حدة العمليات العسكرية في غزّة، بهدف فرض قواعد اشتباك جديدة مع حزب الله، وإحداث تغيير عميق في الوضع الأمني على الحدود، بعد إضعاف قدراته العسكرية وإبعاد قواته إلى ما وراء نهر الليطاني، فضلًا عن الضغط على لبنان لطي صفحة الصراع حول مسائل الحدود عبر إجباره على ترسيم الحدود البرّية، بعد موافقته على ترسيم الحدود البحرية عام 2022. وتدل التفجيرات التي لحقت شبكة أجهزة اتصال حزب الله على أن حكومة نتنياهو صارت الآن في وضع يمكّنها من فتح معركة مع الحزب في لبنان بعد الدمار الواسع الذي ألحقته بغزة.
لقد كان واضحًا منذ البداية أن إسرائيل تتجنب فتح جبهة مع حزب الله في الشمال، في حين أنها متورطة في حرب غزة، وتخصص ثلاث فرق عسكرية لضبط الوضع في الضفة الغربية التي تهدّد بالانفجار نتيجة سياسات الاحتلال وممارسات المستوطنين، وهما أمران ما كان في إمكان إسرائيل فعلهما في آن واحد؛ لعدم توافر الموارد البشرية والقدرات العسكرية اللازمة لذلك. ثمّ إن حزب الله يتجنّب الدخول في حرب واسعة النطاق، كما يتبيّن من مجمل سلوكه وردوده، وذلك لاعتبارات لبنانية داخلية وإقليمية. وقد أدركت إسرائيل ذلك وأطلقت العنان للتصعيد والقيام بعمليات ضد الحزب تجنبت القيام بها سابقًا.
تجاوزت إسرائيل كل القيود في البحث عن وسائل مبتكرة واستخدامها لقتل الخصم أو إصابته، أو بث الرعب في حاضنته الاجتماعية
وفي المرحلة الراهنة، يقدّر القادة الإسرائيليون أن في إمكانهم الحديث عن إعادة سكان الشمال إلى مناطقهم، بوصفه هدفًا رئيسًا من أهداف الحرب؛ ما يعني أن احتمال التصعيد على الجبهة مع لبنان بات مرجحًا، في أوضاع إقليمية ودولية مؤاتية لإسرائيل، خصوصًا منها ضعف الرئيس جو بايدن وانشغال إدارته بالانتخابات الرئاسية المقررة في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.
وقد شكّل رد نصر الله في خطابه يوم 19 أيلول/ سبتمبر على هذا الهدف تحديًّا واضحًا للهدف الإسرائيلي؛ إذ أكد أن المستوطنين لن يعودوا إلى البلدات الشمالية، وقدّم إعلام حزب الله هذا الرد بوصفه إفشالًا لهدف الحرب الإسرائيلي الجديد الذي وضعه نتنياهو ووعد جمهوره بتنفيذه؛ ما ترك السؤال مفتوحًا بشأن الرد الإسرائيلي على هذا الرد.
خاتمة
مع أن العملية الأمنية الإسرائيلية، التي استهدفت شبكة اتصالات حزب الله، لا تمثل تغييرًا استراتيجيًا في موازين القوى مع الحزب الذي ما زال يمتلك مخزونًا كبيرًا من الصواريخ القادرة على إحداث دمار كبير في إسرائيل، فإن الاختراق مثّل، في المقابل، ضربة كبيرة لمنظومة اتصالات الحزب وجهازه الأمني يتطلب منه العمل على تحديد مساحة الخرق وإصلاحه. علاوة على ذلك، وضعت العمليةُ الحزبَ أمام اختبار صعب، فإن هو تجنب القيام برد يتناسب مع ما اعتبره أمينه العام، في خطابه يوم 19 أيلول/ سبتمبر، ضربة أمنية غير مسبوقة للبنان والمقاومة، فإنه يفتح الباب أمام مزيد من التصعيد الإسرائيلي ضده، والاستباحة غير المقيدة للبنان، كما حصل في الغارة التي نفذتها إسرائيل واستهدفت بها اجتماعًا لقيادات حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت يوم 20 أيلول/ سبتمبر 2024، وأدت إلى مقتل عدد منهم، أبرزهم إبراهيم عقيل، قائد العمليات الخاصة في الحزب. وإن هو قام بالرد، كما توعد، فإنه يغامر بدخول مواجهة عسكرية متأخرة مع إسرائيل التي يبدو أنها تفرغت الآن لمواجهة أرادتها في لبنان، وفق توقيتها. لكن الأهم من ذلك أن إسرائيل تجاوزت في الحرب الجارية كل القيود في البحث عن وسائل مبتكرة واستخدامها لقتل الخصم أو إصابته، أو بثّ الرعب في حاضنته الاجتماعية من دون النظر إلى أي اعتبارات أو الالتفات إلى أي مواقف أو عواقب، وهو أمر يسترعي بالفعل التوقف عنده والتفكير في نتائجه.