مجزرة التضامن.. كل العالم معنا يا الله
كثيرون يعرفون العدد الإجمالي للمجازر المسجَّلة باسم شركة الأسد للإبادة متعدّدة الجنسيات. منفذو الجرائم يعرفون الرقم. والنظام السوري، بصفته الرابطة الرسمية للقَتَلة، يملك السجل الكامل والمفصَّل. الرعاة الكثر لهذا النظام، من روسيا وإيران وحزب الله، معطياتهم يصعب أن تخطئ. أما أجهزة الاستخبارات العالمية القوية، فالمؤكد أنها تعلم الكثير، لكن ليس بالضرورة أنها تدرك كل شيء. أدب السجون السورية المنشور قبل اندلاع الثورة السورية وخلال أحداثها وبعد انتهائها يزوّدنا بكمٍّ هائل من الأجواء والأحداث والمعلومات والنفسيات التي تحرّك تلك الآلة التي تحفر الحيرة عميقاً عندما يُراد تسميتها: هل تسمّى النظام؟ العصابة الإرهابية الحكومية؟ السلطة الفاشية؟ رابطة المجرمين؟
لا تسمية تعبّر عن شعور مشاهدة أيٍّ من المقاطع المصوّرة الـ27 التي توثق إعدام ثم حرق 41 رجلاً من أصل أكثر من 280 مدنياً في غضون 25 دقيقة في حيّ التضامن عند المدخل الجنوبي لدمشق ذات يوم من إبريل/ نيسان 2013. هي مجرّد عيّنة عن معنى أن يقع إنسانٌ تحت قبضة وحش أسدي. للأمانة، مستوى الفظاعة في سلوك مرتكبَي المذبحة، أمجد يوسف ونجيب الحلبي، أقل بكثير مما تسجله قصص وشهادات كثيرة لما عرفته سورية قبل 2011 وبعده. إذاً، أين تكمن تحديداً "قيمة" ما نشرته وبثته صحيفة الغارديان البريطانية، وقد استغرق صدور قرار الإشهار نقاشات مهنية وأخلاقية مستفيضة داخل إدارة التحرير؟
نشر التسجيلات الـ27 محاولة جديدة يجب ألا تكون يائسةً لتحريك المياه التي لا تزال راكدة، ما دامت الجغرافيا التي تركد فيها اسمها المنطقة العربية، أو العالم الثالث عموماً. أبطال تحريك المياه تلك صحافيون أجانب ومنشقّ سوري عن نظام الإبادة ومواطنة انتحلت صفة الابنة الوفية للبيئة الحاضنة لمجزرة التضامن ولكل المذابح الأسدية الأخرى. لا مجال لترّهات طائفية في مسألة التسريب، فكلاهما علويان. نشر التسجيلات الـ27 محاولة أخلاقية لإعادة إحياء خطّ أحمر رسمه ذات يوم باراك أوباما، ثم محاه باليد اليسرى نفسها التي خطه بها عام 2014، فقدّم رسمياً المسألة السورية هدية مجانية إلى فلاديمير بوتين في مقابل نكتةٍ سمجةٍ اسمها تسليم سورية مخزونها من الأسلحة الكيميائية التي قتلت الآلاف من دون تصوير ولا مشاهد دماء ولا سبق صحافي كالذي سجلته "الغارديان" باسم فريق عملها المحترف قبل أيام. نشر التسجيلات الـ27، وإن كان عملاً صحافياً بحتاً، فإنه أولاً وقبل أي شيء آخر، فعل أخلاقي.
نشر مشاهد ما هو لاإنساني بهدف إنساني تماماً يقع في القلب من العمل الصحافي. إزعاج المشاهد ببثّ مشاهد مروّعة لجريمة بهذا الحجم يجدُر أن يكون له مفعول الصدمة الإيجابية لمن هو قريب أو بعيد، من رأي عام وحكّام وأصحاب سلطة وقدرة وقرار. في زمن القتل الروسي في أوكرانيا، كان يجب أن يتذكّر البشر، أو من لا يزال يعيش في داخلهم إنسان، أن القتلة يتشابهون، وأن لا فرق بين الضحايا أيضاً، بغضّ النظر عن دينهم ولون بشرتهم وعيونهم وثقافتهم وعدد تأشيرات الدخول المسجّلة على جواز سفرهم، وإن كانوا يملكون أصلاً جواز سفر. نشر التسجيلات الـ27 هو سؤال مطروح على من يتحمّسون لبقاء نظام بشار الأسد بحجّة السيادة والممانعة وكره أميركا، أو إعادة تأهيله وإعادة العضوية إليه في نادي المجتمع الدولي والنظام العربي الرسمي. هو سؤال موجّه إلى الوقحين ممن استقبلوا بشار الأسد ويصرّون على مشاركته في قمة الجزائر، ولأولئك الساعين إلى مصافحته سرّاً بحجة الواقعية السياسية وبشعارات محاولة إصلاحه وضرورات التعاون الأمني، وذلك كله بتعويذة "عفا الله عمّا مضى"، وكأن شيئاً قد مضى أو انتهى بالفعل مع هذا النظام ومحور الشر الذي يرعاه ويحميه ويسيّر عمله.
نشر التسجيلات الـ27 لمجزرة التضامن فعلٌ يجدر أن ينقل السوريين الضحايا من شعار "يا الله ما لنا غيرك يا الله"، إلى مرحلة جديدة، تتجاوز حدود سورية وتطاول كل القتلة في العالم. مرحلة قد يكون شعارها الأنسب شيء من نوع "يا الله كل العالم معنا يا الله".