مجرم الحرب مرجعاً قضائياً موثوقاً

03 فبراير 2024
+ الخط -

لا جديد في الموقف الإسرائيلي المعادي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) المنبثقة عن الأمم المتحدة، فلطالما عبّر رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وممثلون لأقصى اليمين عن رغبتهم في تصفية الوكالة التي ترعى خمسة ملايين ونصف مليون لاجئ في لبنان وسورية والأردن والضفة الغربية وقطاع غزّة. وبينما تتالت نداءات مسؤولي الوكالة في السنوات القليلة الماضية الداعية إلى سد النقص في ميزانية الوكالة، وظلت هذه النداءات تلقى بعض الاستجابة، فيما بقيت ميزانيتها تشكو من عجز، ما أدّى الى تقليص بعض خدماتها الأساسية.

وخلال الحرب الحالية على غزّة، تزايدت حاجة "أونروا" الى دعم ميزانيتها من أجل مواجهة الوضع الكارثي لمليونين وثلاثمئة ألف مليون لاجئ ترعاهم الوكالة في القطاع، ولم تلق النداءات التي تعكس الوضع الطارئ استجابة تُذكر، إذ تجاهلتها الدول الكبيرة المانحة، ولم يلبَث الوضع الكارثي أن تفاقم مع اشتداد وطأة الحرب على المدنيين، إذ تعرّضت مقارّ الوكالة ومراكزها للقصف غير مرّة وبصورة منهجية، فيما أودى القتل المتعمّد من القوات الإسرائيلية بنحو 120 موظفا محلياً في الوكالة. ومع ذلك، واصلت "أونروا" القيام بدورها البطولي في أجواء من جحيم القصف المتكرّر على مقارّها، واقتحام مراكز الإيواء التي وفّرتها لمن فقدوا بيوتهم وذويهم، وكان من المنتظر أن تحظى الوكالة بدعم متعدّد الأشكال، نظرا إلى مواظبتها على العمل في ظروفٍ بالغة الخطورة، وأن تنال، على الأقل، تقديرا معنويا، لجهودها الإنسانية الاستثنائية أمام الوحشية المتمادية من القوات المعتدية جرّاء انتهاك سائر القواعد والضوابط للحروب، ومع انكشاف وجهة هذه الحرب بتنظيم إبادة جماعية للمواطنين من أبناء غزّة.

سارعت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وإيطاليا وأستراليا وفنلندا إلى إعلان وقف طارئ لتمويل "اونروا" قبل ظهور (أو استكمال) أي تحقيق مستقل في اتهامات نتنياهو ومجلس حربه

خلافا لذلك، انبرت دول غربية قبل أيام إلى إعلان وقف طارئ لتمويلها الوكالة، استجابة لاتهاماتٍ أطلقها مجرم الحرب نتنياهو بحقّ عاملين في الوكالة، حيث جرى اتهامهم بالمشاركة في عملية 7 أكتوبر. وهي اتهاماتٌ سياسيةٌ صارخة، لكون صاحبها معروفاً بعدائه لـ"أونروا"، ولم يكتم يوماً رغبته في تصفيتها كون وجودها يحيل إلى نكبة 1948 التي اقتلعت شعبا من أرضه. وبالتزامن، نشأت دولة على أرض فلسطين. وبالضد من أي منطق سليم ومن مقتضيات التبصّر، سارعت كلٌّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وإيطاليا وأستراليا وفنلندا إلى إعلان وقف طارئ لتمويل الوكالة قبل ظهور (أو استكمال) أي تحقيق مستقل في اتهامات نتنياهو ومجلس حربه الوكالة الأممية. وبهذا، فإن من أمر بقصف مقرّات الوكالة وبقتل العشرات من موظفيها، تم اعتماده مرجعاً قضائيا موثوقاً، للحكم على موظّفين في الوكالة ممن بقوا على قيد الحياة، وبناءً على توجيهات هذا المرجع ممثلا بنتنياهو فقد سارعت هذه الدول إلى وقف طارئ لتمويل الوكالة، ومن غير أن يلتفت مسؤولو هذه الدول الغربية إلى أن صاحب هذه الاتهامات مجرم قاتل، وأنه يستحقّ سوقه إلى المساءلة والمحاكمة، إذ أمر بارتكاب مجازر مريعة ضد اللاجئين في مقرّات "أونروا"، وأمر بقصف مراكزها مرارا وتكرارا، واستهدف بالقتل عشراتٍ من موظّفيها، وذلك في سياق حملة التطهير العرقي التي ما انفكّ يشنّها على مرأى ومسمع من قادة الدول الغربية.

ومن شأن وقف مساهماتٍ أساسيةٍ في تمويل الوكالة أن تتعرّض ميزانيّتها الى مزيد من العجز في ظروف اشتداد الحرب، حيث تقف "أونروا" في طليعة هيئاتٍ دوليةٍ قليلةٍ تثابر على أداء دورها الإغاثي والإنساني، بما يجعل من وقف التمويل وسيلة ضغط شرسة تعيق عمل الوكالة، وبما يشكل بداهة دعما لحرب نتنياهو على الكتلة البشرية في غزّة، بتجفيف ما تبقى من مصادر الحياة ومواردها في القطاع المنكوب. وبما يشكّل استجابة للهدف العزيز على السيد نتنياهو بتهيئة الظروف والأجواء لتصفية الوكالة المعنية بإغاثة اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم منذ أزيد من سبعة عقود.

يتم إسناد نتنياهو بطرقٍ شتّى، منها المسارعة في دعم توجّهه إلى الطعن بأونروا على طريق شطبها، بحيث يتم معها شطب عبارة اللاجئين الفلسطينيين

من المعلوم أن دولا غربية رئيسة، منها تلك التي أوقفت تمويلها "أونروا" قد أبدت مواقف تتراوح بين تأييد صريح لحرب نتنياهو، أو الامتناع عن الدعوة إلى وقف إطلاق النار، أو إبداء اللامبالاة والنأي بالنفس عن هذه الحرب الوحشية، وإذا بهذه الدول تستيقظ فجأة وتلتفت إلى تفصيل منتقى من تفاصيل تلك الحرب، يتعلق بموظفين في الوكالة، ولا يتعلّق الأمرُ هنا بإبادة مئاتٍ من العائلات، ولا تهديم المئات من البيوت والمجمّعات السكنية على رؤوس أصحابها، ولا بقطع الماء والكهرباء والدواء عن الأطفال والرضّع والمسنّين والمرضى، بل يتعلق الحال باتهامات من غير سند أو دليل تتعلق بما جرى في 7 أكتوبر. أما ما جرى بعد ذلك التاريخ فإنه لا يستوقف ممثلين سياسيين وصانعي قرارات بارزين للحضارة الغربية في طوْرها الراهن.

بهذا يتم إسناد نتنياهو بطرقٍ شتّى، منها المسارعة في دعم توجّهه إلى الطعن بوكالة أونروا على طريق شطبها، بحيث يتم معها شطب عبارة اللاجئين الفلسطينيين، فهذا اللجوء هو الوجه الثاني لنشوء الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين بدعم بريطاني ثم أميركي، قبل أن ينضم باقي الغرب إلى مباركة اقتلاع شعبٍ من أرضه. والحرب الصهيونية التي شنّت على هذا الشعب منذ بدء الانتداب البريطاني قبل أزيد من قرن، ما زالت متوالية فصولاً وتشهد دعما غربيا متواصلا، مع إظهار دول غربية مواقف نزيهة مثل بلجيكا وإسبانيا والنرويج ومالطا وأيرلندا. ويقع استهداف الوكالة الأممية هذه الأيام في قلب هذه الحرب ذات النزوع الاستئصالي، ما يعيد التذكير بفصول سوداء من نشأة دول مثل كندا وأستراليا والولايات المتحدة على حساب السكّان الأصليين، فيما يشي وقوف بريطانيا مع استهداف "أونروا" بوفاء المحافظين الجدد في لندن بتاريخ بلادهم المشين في التسبّب بالكارثة الفلسطينية ابتداء بوعد بلفور عام 1917 ومرورا بفرض الانتداب الوظيفي على فلسطين لتمكين الحركة الصهيونية من الاستيلاء عليها، وليس انتهاء بالانسحاب البربطاني من فلسطين تزامناً مع إعلان إنشاء الدولة الإسرائيلية. ولا يكرّر التاريخ هنا نفسه، بل إنه يشهد تواصلا واستئنافا لعداءٍ ثابت منذ أزيد من مائة عام، وعلى الضد من ادّعاءات الخروج البريطاني من الحقبة الاستعمارية ومن ذهنيّتها.

وسوى ذلك، ينطوي استهداف وكالة أونروا على استهداف أكبر نحو المنظمة الدولية الأم، وهي الأمم المتحدة الراعية للوكالة، ولهذا لم يلق أمين عام للأمم المتحدة مثلما لقيه أنطونيو غوتيريس من استخفاف وتجاهل لنداءاته ومناشداته منذ أربعة شهور من قادة دول غربية ممن يعكسون في هذه الآونة انحدارا لا مثيل له في القيم السياسية الدولية يتعدّى ازدواجية المعايير إلى تغييبها والقفز عنها.