مجتمع دولي ينازِع؟

25 أكتوبر 2023
+ الخط -

(1)
ثمّة سؤالٌ مُعلق في سماء المجتمع الدولي: أين منظومة مبادئه وقيَمه وسلوكياته؟ شهدت البشرية على مدى سنوات، بل قرون طويلة، مسيرة عبرت خلالها محطّات تداخلتْ فيها عقائد وأخلاق وفلسفات، بوقائع في التاريخ زماناً، وبالجغرافيا مكاناً، لتصل في نهاية أمورها إلى منظومة من القيَـم والمبادئ التي ظلت تحكم المجتمعات البشرية عقودا طويلة. لم يكن ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945، ولا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، ولا ما توافقت عليه الأمم، بعد سنوات الحرب العالمية الثانية من مواثيق واتفاقيات، إلا بناءً قام على قيم ومبادئ ارتضتها شعوب العالم. لقد عرفت البشــرية ويلات الحروب وجولات الدّمار منذ فجر التاريخ، فأدركت جلال قيمة الحياة على كـوكب الأرض وموجبات التعاون المشترك لعمارة الأرض. لم تكن الكتب السماوية وحدها التي حضتْ على قيمة الحيـاة، بل ظلّ الفكـر الإنســاني أيضا، وعلى اختلاف مدارسـه، شـريكاً في تعزيز تلـك القيمة العظيـمة. وقـد كانت لوقائع التاريخ، وما انطـوت عليه ســنواتها مـن صراعـات وخــلافات وحروبات، دورها المؤثر في استخلاص العبـر، حتّى يكون لقيمة الحياة ســموّها الموحي بالتعظيم والتـداني، ولجلال الموت ما يوحي بالنفـور والتباعد.
إذا أدرنا النظر إلى ما حولنا في هذا العالم المضطرب، فإني أضع إصبعاً على حادثات ثلاث، أتملى فيها بموضوعية وعمق نظر. أولها ما جرى ويجري في بلادي السودان من حربٍ يدفع أبرياء أثمان مغامرات الطامعين فيها، وثانيها حرب روسيا وأوكرانيا وما انطوت عليه من خساراتٍ طاولت شعوبا غير شعبي البلدين، وثالثها هذا الذي جرى ويجـري في فلسطين.
(2)
في السودان قتال مجنون، بأيدي أبنائه، فليس من عـدوٍّ خارجـي جاء لغزو البلاد، ولا من جارٍ قريب من جيرانها تحرّش بها، وليس من سببٍ واضحٍ يبرّر هذا الذي دفع أبناء وطن واحد، إلى أن ينخرطوا في حرب "هرقلية" بشعار "عليَّ وعلى إخواني الأعداء يا رب..."، إلا مطـامع السيطرة العمياء، والتنافس على مواقع النفوذ، غير أن تلك المطامع حملـتْ، في طياتها، شــبهات تتصل بمطامع أطراف خارجية، ولم يغب ذلك كله عن بصر المتابعيـن المحــايديـن. لو جاءت شبهات تلك المطامع من أطراف قوىً كبرى فذلك ممّا هو متوقع، وممّا ساد خلال ســنوات حقبة الحرب الباردة التي لوّنت النصف الثاني من القرن العشرين، لكن بعض تلك الشبهات صدرت من بلاد لم تبلغ تطلعاتها ومطامعها ما يقرّبها إلى القوى العظمى، لكنـها استعظمت أحلامــهـا والحلم حقٌ لكل حالم، بل أرادته مطمعا يسهل تحقيقه ليصير واقعا حيّا ماثلا. وأملك أن أقول إن من بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دولاً نالت استقلالها من المستعمر بعد أزيد من عشرين عاما من بعد نيل السودان استقلاله. دول مثل هذي تسعى إلى تحقيق مطامع ومكاسب تتمنّاها في السودان، البلد الذي، بحسابات الأراضي والمياه، كتبـتْ له الأقــدار أن يكون أنسـب ســلة توفّـر الغذاء لشعوب كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وربما لشعوب دولٍ أبعـد.

شعوب العالم حتى في عقر دار الظالمين صدحت تطالب بوقف حرب إبادة لشعب فلسطيني له الحقّ في الحياة، وفي الكرامة

سؤال المليون هنا: أين موقف المجتمع الدولي بجماع منظماته الأممية ووكالاتها وهيئاتها، وبجماع تلك الدول المصنّفة كبرى، ممّا يجري في السودان، وأحوال البلاد تنحـدر إلى ما يشبه حالة انتحــار وإفـناء ذاتي؟ لا أحتـاج لتفصيل لما هـو واضح ويشاهده كبار المجتمع الدولي على شاشات الفضائيات.
(3)
ثم هنالك حرب روسيا وأوكرانيا، وما آلت إليه أحوالها بما يشبه مســرحية بطلها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو الممثل بالفعل والمهنة، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فلا يبين أفقٌ لنهاية المواجهات العسكرية بين البلدين، فيما المجتمع الدولي، وإن لم يقف متفرّجاً على تلك المسرحية الميلودرامية، لكنه دلف إلى حالة من التصارع، بما يكاد أن يعيد إلى الذاكـرة جولات المواجهات الباردة ومغامرات الجواسيس، في السنوات الوسيطة من القرن العشرين، وبما صار معروفا بسنوات حقبة الحرب الباردة. ليست حرب روسيا وأوكرانيا باردة، لكنها صارت تمريناً لمصـارعة خفـية في المنظـمة الأممـية، وبيـن الأعضاء دائمي العضوية في مجلس أمنها. ها نحن نشهد مواجهة بين الشرق والغرب لا يُراد لهما أن يلتقيا، ولم يبق لنا إلا أن نرى من جديد الرئيس بوتيــن يخرج حـذاءه الثقيـل ويخبط به منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة، مثلما فعل رئيس الاتحاد السوفيتي السابق، خروتشوف، في مواجهته التاريخية للولايات المتحدة، على أيام الرئيس الأميركي المغتال، جون إف. كيندي، في أوائل سنوات ستينيات القرن الماضي!
(4)
الأنموذج الثالث الذي أقودك إلى النظر إليه ما يتصل بالحرب غير المتوازنة بين دولتين في الشرق الأوسط، فلسطين وصنيعة الإمبريالية الظالمة إسرائيل. وإني إذ أقولها لك، وكأني أسـاوي بين السّـارق والمسروق منه، لكنها خطة ظالمة رسمها عتاة الاستعماريين الكولونياليين، في ملهاة سياسية وقحـة، منحت أرضا لا يملكها المانح لطرفٍ لا يستحقها، فصار الواقع يحـدّث عن استعمار استيطاني جــديد، وجدت سـيطرته مباركة خائنة من كبار المجتمع الـدولي، بل مساندة سياسية واقتصادية وعسكرية ومعنوية، أنشأت مظلومية تناقض رغبات الشعوب. شعوب العالم حتى في عقر دار الظالمين صدحت تطالب بوقف حرب إبادة لشعب فلسطيني له الحقّ في الحياة، وفي الكرامة.

يشهد النظام القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حالاتٍ، فارق فيها كبارُ العالم وأقوياؤه، ركائز حملتها مواثيق أممية ملزمة، باتت الآن متآكلة

لعلّ إنشاء كيان إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط على حساب شعب وأرض دولة فلسطينية قائمة، هو الإسفين الأول الذي دقّ عن عمد ومن أقوياء العالم، في الميثاق الذي توافقت على مبادئه جميع الدول المستقلة، والذي أسّس لتعاون دولي يحفظ الســلم والأمن الدوليين، ويحفظ حقوق الشعوب في الحرية والاستقلال والنماء الاقتصادي. ثمّة مواثيقُ عديدة عملت على تعزيز أسس ذلك التعاون الدولي وركائزه، أولها وأهـمها ميـثاق الأمـم المتحدة، وثانيها الإعلان العالمي لحقـوق الإنسان. 
 لا أحدّثك عن ذلك الصراع التاريخي، ولا عن الحروب التي دارت، ولا الاتفاقيات التي حبّـرتْ، والتي أسفرتْ، في آخر الأمـر، إلى ما بات جلـياً على إصـرار كبار المجتمع الدولي لأن يكون التزامهم بمقرّرات قـيم التعاون الدولي ومبادئه، التزاماً انتقـائيا، يُغلف بدبلوماسية ممـوِّهة، وبمكرِ سياسيٍ غير خافٍ ، ولكنها الحقيقة التي لا تنكرها عين، ولا تتغافل عنها ضمائر. 
 (5) 
ها نحن نشهد بعيونٍ مفتوحة كيف يتذاكى أقوياء المجتمع الدولـي على مواثيـق التعـاون الدولي، يتمسّكون بقيمه ومبادئه بما يوافق أهواءهم، وكأن ليـس في ذلـك إخـلالٌ بقـيـم عــدالةٍ مطلوبة، ولا بموجبات حفظ السلم والأمن الدوليين. احتشدت وقائع أجواء الحرب الباردة التي سادت في حقبة سنوات النصف الثاني من القرن العشــرين، بكثير من الخفـايـا والمناورات، وبكثير كثير من الأكاذيب، بما جعل ســنوات تلك الحقـبة أكثر برودة من ثلـوج القطب الشمالي. إلا أن الألفية الثالثة شهدت رسوخاً في الانفتاح، وشيوعا في المعلومة، وحضوراً مشاهداً، بما جعل مناورات التـذاكي ومغامرات الخداع، أصعب منالاً لتمرير المظلوميات، وأوضح مـن أن لا تلحظها عيون الشعوب المستهدفة. لن تكون مؤامرات أقوياء العالم في جنوحهم لاصطياد أطماعهم مخفيّة وراء ســتار، ولا سلوكياتهم في انتقاء ما يروق لهم، تجري في جنـح ظلام الدبلوماسية، بل ما يعينهم على ابتلاع فقراء العالم وضعفائه تراه الشعوب بعيون مفتوحة. ما أصدق الرجل الذي نصّبوه أميناً عاما للأمم المتحدة، فقد صاح، في كبار العالم، إن ثمّة حاجة ملحّة لتجاوز سياسة المناورات والتذاكي من الأقوياء، وأن الحاجة، بقراءة صائبة للظرف العالمي الماثل، باتت ملحّة لصياغة نظام دولي جديد.
يشهد النظام القائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفق ما أوردنا من أمثلة قليلة أعلاه، حالاتٍ، فارق فيها كبارُ العالم وأقوياؤه، ركائز حملتها مواثيق أممية ملزمة، باتت الآن متآكلة، وحان أوان مراجعتها.

تتعامل منظمات وهيئات ووكالات، بما فيها قيادات تمثل المجتمع الدولي، مع أزمات العالم وصراعاته وخلافاته وحروبه، بما يشبه العجز

(6)
مَن تابع مقـرّرات أجازها كبار العالم في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم، بدءاً بالجمعــية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها، ومروراً باجتماعات لجان حقوق الإنسان ولقاءات دول العشرين وسواها، قد يرى أنَّ كلّ تلكم المقرّرات تصدر عن ضمير حي يستجيب لقضايا العالم وأزماته في الظاهر. كلا، ليست بالطبع تلك هي الحقيقة. لن يغـيـب عن بصـر المتـابعـيـن ذلـك الاهتمـام الانتقائي بقضايا العـالم وأزمـاته، بل هيَ تـنـبئ عن عـجـزٍ بنـائي مـردّهُ ضـعـف الإرادة الدولية لتحقيق مسعىً حقيقيٍّ لسلامة المجتمع الدولي وأمان شعوبه، والتي هي روح وأسّ بقائه، وليس اللهـث المرضيّ وراء تحقـيق المصالح الضيقة والمطامع الظالمة، على حساب شعوبٍ هضمت حقوقها. 
حين تتعامل منظمات وهيئات ووكالات، بما فيها قيادات تمثل المجتمع الدولي، مع أزمات العالم وصراعاته وخلافاته وحـروبه، بما يشبه العجـز أكثر من التجـاهل المتعـمّـد، فإنـك ترى الشعوب أقدر على الوقـوف مع ضمائرها الحيّـة لتذكّر بقيم العيشِ المشترك وبمبادئ التعاون الدولي القائم على العدالة والحرية والكرامة الإنسانية. حيـن تفارق قيـادات العالم في انشــغالها بقدراتها على التنافس فيما بينها، فإنها تتجاهل الشعوب التي تطحـنها الصّراعات والحـروبات، فتتهرّأ تلك المبادئ وتتهاوى قيم التعاون الدولي.
لك أن ترى دولة مثل السودان، وهي من بين أكبر دول القارّة الأفريقية، تنحدر إلى حالة من الإفناء والهلاك الماثل لصراعات داخلية بالوكالة عن أطرافٍ خارجية طامعة، أو أن ترى حربا تطول سنوات في قلب قارّة آسيا بين روسيا وأوكرانيا، أو يرى، وفي هذا العصر الرقمي المفتوح، حرباً بين فلسطينييـن ودولة إســرائـيـلـية نهبت دولتهم لصالح كيان مصنوع صناعة ظالمة ومشـوَّهة على أراضـيــهم، فلن تعجــب إن رأيت شعوبا وقد غُـلبـت على أمورها وأزهقـت حقوقها، تنتفض لتسمع أصواتها لمجتمعٍ دولي تنكر لأصول مبادئه وقيمه لترسيخ تعاون دولي عادل. 
إننا، وفيما يبدو عياناً بياناً، إزاء مجتمع دولـي ينازِع في البقاء، وقـد اختـلـتْ موازينـه، وفقد أكثر مبرّرات بقائه، ولم يبـقَ له، وبعد أن تآكلت أطرافه، إلّا أن يتهاوَى ويتآكل، مثلما تآكلتْ منسـأة النبي سليمان، فتهاوى جثمانه حتى تأكـد للشـياطين موته. إننا بالفعل أمام مجـتـمـع دولي ينازع.