متى يتوقف الاستقطاب الثنائي في تونس؟
ظل المشهد السياسي في تونس يراوح مكانه، على الرغم من التقدّم الواضح في مجال الحقوق والحريات والتداول السلمي على السلطة، والتنظيم المتواتر للانتخابات بأشكالها المختلفة وفق المعايير الدولية للشفافية، غير أن هذا كله لا يلازمه تطوّر فعلي في المجال الحزبي والصراع السياسي.
تحوّلت الديمقراطية التونسية إلى حالةٍ من الصراع الدائم بين قوى سياسية تتنازع من أجل افتكاك مواقع سلطوية، في غيابٍ شبه تام لبرامج فعلية لحل المشكلات الاقتصادية والأزمات الاجتماعية المزمنة. وهذا ما يفسّر حالة التفاوت بين المجال الواسع للحريات وتقدّم النظام الحقوقي، في مقابل احتقان اجتماعي وتوتر سياسي يزيدان في ضيق الرأي العام وعزوفه عن السياسة والصورة السلبية التي تشكلت في الوعي الجمعي للرأي العام عن السياسيين جميعا، والمسؤولين في الدولة، بالإضافة إلى حالة من عدم الارتياح لأداء وسائل الإعلام التي عجزت عن الخروج من شرنقة النزاعات السياسية لطرح القضايا الحقيقية التي تهم المواطن.
ظهر رئيس الجمهورية وحلفاؤه من الأحزاب الصغيرة واجهة سياسية ترغب بدورها في استثمار الاستقطاب الثنائي لصالحها، في مواجهة حركة النهضة
ربما كانت الأزمة الحقيقية التي تضغط على المشهد العام في تونس تجد جذورها في حالة التنازع السياسي بين الأحزاب، وتركّزها في حالة من الاستقطاب الثنائي التي لا تخدم البلاد، فمنذ انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2011، تشكلت بذور هذا الصراع الثنائي، والذي مثّلت حركة النهضة طرفا أساسيا ودائما فيه. إثر نهاية تجربة الترويكا في الحكم، وصعود حزب نداء تونس (2014) بقيادة الراحل، الباجي قائد السبسي، كان الشعار الأساسي لهذا الحزب هو التصدّي لحركة النهضة، ووقف ما يعتبره بعضهم محاولة هيمنتها على الدولة. وعلى الرغم من فوز حزب نداء تونس بالمواقع السلطوية الأهم، رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان، إلا أنه انتهى في موقع الحليف لحركة النهضة، وهو ما أفضى، في النهاية، إلى تفكك هذا الحزب تنظيميا، واضمحلاله سياسيا. وبعد السنوات الخمس من الحكم المشترك بين "النهضة" و"نداء تونس"، تصاعدت من جديد خطابات الفرز الثنائي، وكان من المتوقع أن يكون اليسار القوة التي يمكنها الاستفادة من التنازع الجديد، غير أن حالة التشرذم الفصائلي حوّلته إلى رقم هامشي. وفي المقابل، منح الناخبون الفرصة لشخصيةٍ غير حزبية، لتصعد إلى منصب الرئاسة، على أمل إيقاف نزيف الصراع الثنائي غير المجدي.
ما حصل بعد انتخابات 2019 أن حالةً من الاصطفاف الحادّ ظهرت من جديد، وهذه المرّة أصبح الصراع يشمل أكثر من جهة، فمن ناحيةٍ ظلت "النهضة" الطرف الدائم في هذا التنازع السياسي، فإن القوى الساعية إلى افتكاك موقع القوة الموازية لها أصبح يشمل أكثر من طرف، أولها محاولة الحزب الدستوري أن يستأثر بموقع المناوئ الرئيسي لحركة النهضة، وهو في هذا يقدّم نفسه وريثا لنظام الاستبداد زمن زين العابدين بن علي. واتجه هذا الحزب إلى إثارة الفوضى في البرلمان، عبر كتلته البرلمانية الصغيرة، بالإضافة إلى محاولات متعدّدة لتحشيد الشارع، وتوظيفه في هذا الصراع، غير أن هذا كله مجرّد جزء من المشهد فحسب، فقد ظهر رئيس الجمهورية وحلفاؤه من الأحزاب الصغيرة، مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب، واجهة سياسية ترغب بدورها في استثمار الاستقطاب الثنائي لصالحها، في مواجهة حركة النهضة. وبالطبع، هذا لا ينفي محاولة مجموعات حزبية غير برلمانية تشكيل حلف سياسي، على نحو ما يفعله رئيس حزب الأمل، أحمد نجيب الشابي، في السياق ذاته.
أفرزت الثورة التونسية نخبتها السياسية المسيطرة حاليا، من وجوه حزبية مُستَهلكة، تستميت في الدفاع عن بقائها، بالإضافة إلى بقايا نظام الاستبداد
تبدو حركة النهضة في موقع المستفيد الأكبر من هذه الاستقطابات الثنائية، حيث حافظت، من خلاله، على قدرتها على تحشيد جمهورها في الشارع، وعلى التخلص من وطأة حسابات السلطة والحكم، فهي تدعم الحكومة من دون أن تتحمّل كلفة فشلها وعجزها. وإذا كان من الأكيد أن النظام الانتخابي الحالي لا يسمح بظهور أحزابٍ حاكمةٍ تتحمّل مسؤولية أدائها سنوات خمس، بالإضافة إلى فوضى المعارضة السياسية، فإن وضعا كهذا ينشئ حالةً من عدم الاستقرار السياسي، مُضافا إليه غياب برامج فعلية يمكنها تطوير البلاد.
لقد أفرزت الثورة التونسية نخبتها السياسية المسيطرة حاليا، من وجوه حزبية مُستَهلكة، تستميت في الدفاع عن بقائها، بالإضافة إلى بقايا نظام الاستبداد التي تستهدف تدمير المسار الديمقراطي، بدفع من لوبيات محلية وقوى إقليمية. بالإضافة إلى هيمنة خطاب المطلبية لدى الفئات الاجتماعية المختلفة، وهو ما أحدث حالةً من التشنج السياسي المستمر، والذي لا يمكن أن ننفي أن هناك من يتعمّدونه بغرض الاستمرار في توجيه دفّة الوضع العام، والاستفادة من حالة السيولة السياسية، وضعف قبضة الدولة، من أجل مراكمة مزيد من المصالح. لهذا، تقتضي كل محاولة إصلاحية للمشهد السياسي مجاوزة الجيل الحزبي المتنفذ سياسيا في المرحلة الحالية، وغالبهم من محترفي العمل الحزبي والمتقاعدين ممن تجاوزهم الزمن، وهذا أمر ليس من السهل أن يتحقّق في ظل عجز الجيل الجديد، وفشله في بناء ذاته، وتقديم برامج عملية للنهوض بالبلاد.