متاهة الانتخابات الليبية
وحدها المعجزة يمكنها أن تفضي إلى إجراء الانتخابات الرئاسية الليبية في موعدها المحدد، 24 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. والمعجزات بطبيعة الحال لا تتحقق، فكيف إذا كان الحديث عنها في بلدٍ مثل ليبيا، ابتُلِي مواطنوه بنخبةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ تقع مصلحة الليبيين في آخر قائمة اهتماماتها، أو بشكل أدقّ لا أحد يعيرها أي بال، بعدما اصطفّ الجميع في معسكراتٍ متقابلة، وينتظرون الفرصة الملائمة لإقصاء الآخر سياسياً، بعد فشل مخططات إنجاز ذلك عسكرياً.
تعثر إجراء الانتخابات بشقيها، الرئاسي والتشريعي، لم يكن مفاجئاً، فالبداية الخاطئة في إطلاق المسار الانتخابي تقود إلى مثل هذه النتيجة حتماً، مهما حاول بعضهم الابتعاد عن جوهر المشكلة، وربطها بتطورات الأيام الأخيرة من مجريات العملية الانتخابية.
بدا منذ اللحظة الأولى أن هناك من يحرص على عدم حدوث اتفاقٍ حول أيٍّ من أساسيات العملية الانتخابية، لا القوانين (انتخاب الرئيس والبرلمان) أقرّت بالتوافق، ولا عمل مفوضية الانتخابات كان محدّداً وواضحاً، وهو ما تجلّى في فوضى الترشيحات للرئاسيات والطعون والإرجاء المتكرّر عن إعلان اللائحة النهائية للمرشّحين.
أعاد كل ما جرى خلال الأشهر الماضية التذكير بالسجال الذي كان قائماً منذ سنوات، والذي طرح في نقاشاتٍ عديدة على مستوى المسؤولين الليبيين والدوليين، وحتى داخل مراكز تفكير وأبحاث، بأن أي استعجالٍ في إجراء الانتخابات الليبية، ومن دون أسس واضحة ومحدّدة بدقة، سيكون كارثياً، وستكون أضراره أكثر من منافعه.
عملياً، بدا أن هناك من يدرك جيداً ذلك كله وخطورته، ويتعمّد، عوضاً عن تذليل العقبات، تطبيق كل فكرة أو خطوة يمكن أن تعزّز الخلافات. وبالفعل، بدلاً من أن تكون الانتخابات المنتظرة بمثابة الحل المرتقب لأزمات ليبيا، تحولت إلى أزمة بحد ذاتها. والأخطر في ذلك كله كان تعمّد ضرب شرعية أي انتخابات، وتهيئة الأرضية مسبقاً لرفضها والتشكيك بها، وبالتالي، تنتفي الحاجة إليها في مثل هذه الظروف.
التعويل على الانتخابات مردّه الأساس إنتاج هيئات منتخبة تحظى بالشرعية السياسية والشعبية، لتنطلق بعدها ورشة من الإصلاحات وتفكيك الأزمات، ليس أقلها توحيد المؤسسات الأساسية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، فمنذ إطاحة نظام معمّر القذافي في العام 2011، يغرق الليبيون في دوامةٍ من الانقسامات والتناحر والحروب. لكن مجريات الأمور طوال الأسابيع الماضية أظهرت أن لا مصلحة للأطراف السياسية والعسكرية المهيمنة على المشهد حالياً في انتخاباتٍ تقوم على أساس العدالة والشفافية والمساواة. كل طرف منها يريد انتخاباتٍ مفصلة على مقاسه تقوده ومعسكره إلى الحكم منفرداً، أو على الأقل تتيح له أن يكون الطرف المتحكّم بالمشهد، وعدا ذلك لا داعي للانتخابات أو سيتم التشكيك بها.
النقطة الثانية التي يؤشّر إليها كل ما يجري أن التوافقات الإقليمية والدولية التي تُنسج أخيراً لم تنضج بعد إلى المستوى الذي يتيح إنجاز تفاهماتٍ حول الملف الليبي. وبانتظار حدوث ذلك، سيكون على الليبيين التعايش مع فصلٍ جديد من الأزمات. وهو ما أدركه أقله المبعوث الأممي يان كوبيتش، الذي اختار السير على خطى أقرانه من المبعوثين والانسحاب من المشهد. لكنه اختار الاستسلام مبكراً، والقيام بذلك سريعاً (بعد أقل من عام من توليه المنصب)، لأنه أراد أن يبتعد قبل حلول الموعد المفترض للانتخابات، وما يمكن أن تسفر عنه من تفجير للأوضاع، على عكس الدبلوماسية الأميركية ستيفاني وليامز، التي عادت إلى إدارة الدور الأممي مستشارة للأمين العام للأمم المتحدة. وعلى النقيض من كوبيتش، تتسلح وليامز بمعرفتها الجيدة بالفاعلين الليبيين، وحدود كل منهم في إشعال الموقف ربطاً بأوراق قوته/ ضعفه الداخلية ومدى متانة/ حدود علاقاته الخارجية، ومن يستطيع أن يؤثر عليه، وفي أي لحظة.