مباراة بلا جمهور في جنيف
دأبت شعوب كثيرة في العالم على حبس أنفاسها في كل مرة يلتقي فيها رئيسا الولايات المتحدة وروسيا. انتظار صفقة ما، ثم ترقب تسوية هنا وفض نزاع هناك وإشعال حرائق أو ترتيب هدنة، كلها مصطلحات مستهلكة للتعبير عن توق لحلول تخرج من لقاء أميركي ــ روسي لأزمات مستعصية في بلدان من القارات الخمس. كانت أهم الخلافات الأميركية ــ الروسية تدور حول بلدان ثالثة، لواشنطن وموسكو سلطة البت في مستقبلها. تغيرت الأيام وتراجعت الشهية الأميركية على الانخراط في شؤون خارجية، منذ عهد باراك أوباما، واستفحل الأمر مع دونالد ترامب، وارتاح جو بايدن إلى اختزال الأولويات الأميركية الخارجية في اثنتين: الصين وروسيا. الأولى، برأي ساكن البيت الأبيض، تطمح علناً، وبكل الوسائل، الشرعية وغير الشرعية، إلى إزاحة أميركا عن المركز الاقتصادي الأول عالمياً وإرساء أسس لنظام عالمي جديد لا شيء يوحي إلا بأنه سيكون أكثر توحشاً من هذا الذي نعيش فيه. الثانية تعمل في السياسة كما تشتغل المافيات: تصفيات، قرصنة، تحدٍّ على طريقة قبضايات الحي، شتائم، تزييت كافة أدوات التجسس، ركل القوانين الدولية، وطبعاً إثارة غضب واشنطن في أي ملف ممكن لتصبح روسيا عاصمة أعداء أميركا ورمزهم مثلما كان حال الاتحاد السوفييتي. والغياب الأميركي عن مواجهة روسيا طال. منذ انكسر باراك أوباما وسمح لروسيا بالتدخل العسكري في سورية قبل سنوات ستّ، شعر حكام الكرملين وكأن الباب صار مفتوحاً لاختراق أميركا من الداخل. المساهمة الجدية في إيصال دونالد ترامب إلى الرئاسة عبر التجنّد ضد هيلاري كلينتون كانت مفضوحة. مذاك، كل ما حصل بين أميركا وروسيا نقل الخلافات بينهما إلى حيّز جديد مباشر، حدوده غير محصورة في بلدان ثالثة فحسب. اختلافات البلدين حول سورية وإيران وأفريقيا وتركيا وكوريا الشمالية وأفغانستان وأوكرانيا وفنزويلا وتوسيع حلف شمال الأطلسي والعلاقة بأوروبا... ظلت قائمة لا بل تفاقمت، لكنها تراجعت في ترتيب الخلافات الثنائية خطوات إلى الخلف لمصلحة تحول الأزمة إلى مباشرة ــ ثنائية. أسباب العقوبات الأميركية التي راحت تُفرَض بكثرة على المسؤولين الروس صارت من نوع: التدخل لتغيير نتيجة الانتخابات الأميركية، تمويل قرصنة تمسّ الأمن الغذائي للأميركيين، توفير معلومات لمنظمات إرهابية بهدف قتل أميركيين في أفغانستان، تجسس على سياسيين أميركيين وتجنيد آخرين لمصلحة الكرملين... لكن بما أن أميركا تريد الانسحاب من ورطاتها الخارجية، وليست في وارد الغرق بمستنقعات جديدة، فإنّ التعويض عن إعلان الحرب صار يصدر على هيئة تنفيس غضب لفظي على لسان جون بايدن، من نوع وصف بوتين بأنه قاتل.
سيجتمع "القاتل" مع الذي كان يسميه الإعلام الروسي ودونالد ترامب "جو النعسان" يوم الأربعاء المقبل (16 يونيو/حزيران) في جنيف من دون جدول أعمال معلَن. بوتين يريد مناقشة أولويات ثلاث: "المصالح الأساسية في مجال الأمن على الأقل، والاستقرار الاستراتيجي، وخفض الأسلحة الخطيرة"، مثلما قال في منتدى سانت بطرسبورغ قبل أيام. وزيره سيرغي لافروف لا يحمل "أوهام حلولٍ". المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف جل طموحه هو "الاتفاق على عدم الاتفاق". أما أولويات أميركا فكثيرة، ولا يدخل فيها على الأرجح أي كلام مفيد حول سورية وإيران وأوكرانيا...
ذات يوم في نهاية الثمانينات، كانت ملامح الانهيار السوفييتي قد بدأت تلوح، فانطلقت مفاوضات معاهدة "الأجواء المفتوحة" بين موسكو وواشنطن، وتم التوقيع عليها عام 1992، ودخلت حيز التنفيذ في 2002. كان المطلوب يومها افتتاح عهد الشفافية بين البلدين (و25 دولة أخرى) لكي يعرف كل بلد ما يملكه الآخر من ترسانة أسلحة. انسحبت أميركا وروسيا من الاتفاق قبل العيد العشرين للمعاهدة. ولكثرة ما جنته الشفافية، صار أقصى طموح الحريصين على التهدئة، هو أن يصدر بيان ختامي عن لقاء الرئيسين. أما غير المكترثين بمثل هذه الهدنة، فهم يتشوقون لبدء المباراة: نحن مع اللعب الجميل، حتى ولو كان بلا جمهور أجنبي.