ما وراء الموقف الإسلاموفوبي من حماس

25 اغسطس 2024
+ الخط -

منذ بدء عملية طوفان الأقصى، وحتى قبلها، تتعرّض حركة حماس لهجوم من موقف استشراقي إسلاموفوبي في الغرب والشرق، لا يرى فيها سوى حركة إسلامية، حتى إن ثمّة مثقفين عرباً يتمنون هزيمتها أمام إسرائيل. ... وليس هذا المفهوم علمانياً، بل إقصائيٌّ بامتياز، الأخطر فيه أنه لا يرى، أو هو يغفل، الصراع الأساس مع إسرائيل، فهناك فرقٌ بين نقد حركة حماس، وبالعكس نقدها ضروري، والمشاركة في الحملة الغربية لشيطنتها.

لا يؤيد بعضَنا، وصاحبة هذه المقالة منهم، حركات الإسلام السياسي، هذا لا يبرّر الموقف الأيديولوجي منها، وإنكار أنها حركة مقاومة وطنية شجاعة، فهو موقف عن قصد، وأحياناً كثيرة عن غير قصد، ينسجم مع الموقفين، الإسرائيلي والأميركي، المعاديَين لحركة حماس، ليس بوصفها حركة إسلامية، وإنما حركة مقاومة ضد الكولونيالية الصهيونية الاستيطانية في فلسطين.

فكرياً، يتماهى هذا الطرح، بدرجات متفاوتة، مع نظرية "صراع الحضارات" التي أطلقها الكاتب الأميركي صمويل هنتنغتون، الذي بنى على أفكار (وادّعاءات) شيخ المنظّرين الاستشراقيين الاستعماريين، برنارد لويس، الذي حاول تبرئة السياسات الاستعمارية باعتبارها حملة ضد ثقافات متخلفة ومتوحشة. ففي رأي هنتنغتون أن الصراعات في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة هي مجموعة صراعات بين ثقافات، وأن الإسلام هو المشكلة الرئيسة في العالم العربي، فليس هناك نضالات تحرّرية أو حقوقية، والمشكلة ليست في الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بل في أن هناك ثقافة سائدة تمنع التفاهم وتعرقل السلام والازدهار بين شعوب المنطقة وإسرائيل.

هناك تيار ملتزم بالقضيّة الفلسطينية، لكنه وضع من أولوياته مواجهة تيار الإسلام السياسي في العالم العربي

هنتنغتون ولويس وآخرون لم يكونوا خارج "السيستم" الاستعماري، بل كانوا يضعون أُطراً فكرية لسياسات أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لتبرير ضرورة إحكام هيمنة واشنطن والغرب على العالم، لمنع الصين من محاولة أخذ تاج القوة والعظمة من أميركا، وذلك كله مبنيٌّ على فكرة تفوّق "العنصر الأبيض"، بمعنى الثقافة الاستعمارية الغربية، التي تتولّى مهمّة "نشر الحضارة" ولجم "المتوحشين" حتى لو تم ذلك بحرب إبادة.

ما تقدّم ضروري للتحذير من مغبة الانزلاق إلى مقارباتٍ تخدم رؤيةً تُنكِر حقوق الشعوب، وتضع نضالاتهم في خانة التفكير "غير العقلانية" التي تتعارض مع "الحداثة". ... لم يكن في بال هنتنغتون ولويس، ولا في نهج مجموعة "المحافظين الجدد"، حركة حماس أو الجهاد الإسلامي، وإنما معاداة فكرة "التحرّر الوطني"، ففي الحقيقة لا فرق لديهم بين "حماس" أو "فتح" أو الجبهتين الشعبية والديمقراطية، فكلها جزءٌ من الثقافة الإسلامية التي تعرقل السلم والسلام.

ليس المقصود هنا وصم أي نقد الحركات الإسلامية ووصم أي نقد لـ"حماس" بالإسلاموفوبيا، ولكن اعتماد الإسلاموفوبية والإقصائية من بعض المثقفين ومعارضي "حماس" يخلط بين الأمور.

طبيعيٌّ أن يؤيّد جلّ الشعب الفلسطيني والمثقفون توجيه أسئلة نقدية إلى "حماس"، وما إذا كانت تمتلك استراتيجية قبل إطلاقها "طوفان الأقصى"؛ فالثمن فادح، وغير محتمل، لكن ذلك لا يبرّر المساواة بين قادة حماس وحكومة الاحتلال.. فإسرائيل تعمل على إبادة شعب. وحركة حماس، رغم أخطائها وتعارضنا معها، اختارت المقاومة في بيئة ومنطقة أصبحت فكرة المقاومة فيها محرمة على الشعوب.

نرفض بعض ممارسات حماس في أثناء حكمها قطاع غزّة من قمع ومحاولة فرض الأيديولوجيا التي لها أبعاد إقصائية، بخاصة على منتسبيها، وإلى درجة ما على غزّة، لكن ذلك لا يغيّر حقيقة الاحتلال الصهيوني، ولا انضمام الشباب إلى الحركة لمقاومة إسرائيل.

ظهرت مشكلة في العقد الماضي في المنطقة العربية، من نشوء حركات تنويرية وحركات تدّعي التنوير، كان بعضها علانية، حتى إنّا شهدنا ظهور دعواتٍ صريحةً من بعض الكتّاب "التنويريين" إلى التخلي عن القضية الفلسطينية، واعتبار أن الحركات الإسلامية تمنع السلام والازدهار في فلسطين، وهي المقولات نفسها التي يروّجها كتّاب الاتفاقيات الإبراهيمية بصورة وقحة وفجّة. و"التنوير" هذا، المستسلم والمؤمن بتفوّق إسرائيل، مطلوب من أميركا تسهيلاً لإدماج إسرائيل في المنطقة وسيطرتها عليها وتصفية القضية الفلسطينية.

الخلط الغريب بين معارضة حماس ومساواتها بقيادات الحركة الصهيونية، شديد الإجحاف

مؤكّد أن هناك تياراً ملتزماً بالقضية الفلسطينية، لكنه وضع من أولوياته مواجهة تيار الإسلام السياسي في العالم العربي، وأولويته هذه تجعله يساوي بين نتنياهو وقادة المقاومة الفلسطينية، واحتقار عقلهم وإنسانيتهم والتعامل معهم مجرد غيبيين لا يحترمون الحياة الإنسانية، وتدفع بعضهم إلى القول إن "حماس" تعتبر حياة الفلسطينيين أضحية لمعركة تعتبرها دينيةً لا غير. وهناك مغالطاتٌ كبيرة في هذا الطرح، فهناك أجيالٌ من الفلسطينيين تنضم إلى المقاومة. صحيح أن مجموعة كبيرة منها تأثرت بالإسلام السياسي، وهي استمرار للمقاومة؛ فوجود الاحتلال يولّد أجيالاً مقاوِمة، لأنه ليس لديها خيار غير القتال من أجل الحرية.

لا يمكن إنكار أن بعض حركات الإسلام السياسي تؤمن بمفهوم "نحن وهُم" أو تروّجه، أي الإسلام في مواجهة العالم، وهذا ينطبق على بعض التيارات القومية أيضاً، لكن ذلك لا يغير من حقيقة أن الهيمنة الاستعمارية، إضافة إلى الإسلاموفوبيا وحرب إسرائيل المستمرّة ضد الشعب الفلسطيني تغذي هذا التفكير. نحن في حاجة إلى فكر تنويري، لكن بدون إسقاط المفاهيم الاستعمارية عليها.

الخلط الغريب بين معارضة حماس ومساواتها بقيادات الحركة الصهيونية، شديد الإجحاف، ويحب أن لا ننسى أن أميركا والغرب بعامة تعاملوا بالعداء والشيطنة نفسيهما مع منظمة التحرير الفلسطينية في أوج نهوضها، ولم يتغيّر الترويج كثيراً، فإسرائيل وأميركا لا تفرّقان بين الفصائل الفلسطينية، حتى بعد اتفاقيات السلام ومهادنة السلطة الفلسطينية إسرائيل، فعند المتطرّفين، وحتى كبار المسؤولين في الغرب، كل التنظيمات الفلسطينية هي مسلمة، أو جزء من الثقافة الإسلامية، فعليه لا يبرّر "التنوير" شيطنة حركة حماس.

نحن في حاجةٍ إلى الاتفاق حول استراتيجية التحرّر واستراتيجية التغيير في العالم العربي، وشيطنة "حماس" ليست جزءاً من هذا الحوار

نتمنّى عودة منظمة التحرير الفلسطينية قوية، ببناء ورؤية ثوريين، تكون "حماس" جزءاً منها، وهذا ما أؤمن به، ولكنني لا أمتلك الحق بالتعامل مع الحركة وكأنها مجموعة أناس غيبيين غير عقلانيين، والسخرية منهم ومن تضحياتهم، ولا أظنّ أن فقدان القائد الراحل إسماعيل هنية وأولاده وبناته وأحفاده لم يكن موجعاً للجميع. وإننا نواجه اليوم حرب إبادة لا تفرّق بين علماني ومن يحمل الأيديولوجيا الدينية، وهذه ليست مجرّد معركة، بل حرب طويلة، والإسلاموفوبيا جزء مهم من أسلحة العدو.

لن يساعد ترديد جزء من التحريض الذي يمارسه أمثال الكاتب البريطاني، دانيال كريج الذي يتجول في الغرب لإلقاء محاضرات ضد ما يسمّيه "خطر الإسلام"، وأنه لا بد من ربح الحرب ضد الظلاميين والإرهابيين، لن يساعد دعاة التنوير إلا إذا كان التنوير يعني تثبيت هذه المفاهيم.

نحن في حاجةٍ إلى الاتفاق حول استراتيجية التحرّر واستراتيجية التغيير في العالم العربي، وشيطنة "حماس" ليست جزءاً من هذا الحوار، بل إنه يعزّز تيار الانعزالية السياسية التي تصرّ على أن لا شأن للشعوب العربية بالقضية الفلسطينية، وتمهد لثقافة تطبيع شامل على كل المستويات مع عدوٍّ يستهدف الأمن القومي العربي ومستقبل كل عربي من المحيط إلى الخليح.