ما بعد هدنة غزّة

27 نوفمبر 2023
+ الخط -

يحتاج الفلسطينيون بعض الوقت كي ينسوا ما تكبّدوه من خسائر فادحة لم تترك بشراً ولا حجراً، بينما سيستغرق الإسرائيليون زمناً طويلاً قبل أن يتجاوزوا صفعة 7 أكتوبر، فالبصمة الثقيلة التي تركتها لا يمكن محوُها من ذاكرة التاريخ، وستظلّ حاضرة بقوّة في صدارة أيّ حساباتٍ سياسية أو عسكرية على الجانبين، بعد أن صارت جزءاً أصيلاً من معادلات الصراع العربي الإسرائيلي ككل، وخصوصاً في الشقّ الفلسطيني منه.
ورغم أن الحرب مرشّحة للاستمرار مدة أخرى قد تصل إلى أشهر، إلا أن الهدنة التي بدأت صباح يوم الجمعة الماضي نقطة فاصلة ومنصّة تتويج لبسالة الفلسطينيين وكفاحهم في قطاع غزّة بكل فئاتهم، من المدنيين والمقاتلين، بعد أن جسّدت تلك الهدنة معاني أعمق كثيراً من دلالاتها الآنية المباشرة.
شهدت المواجهات بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينية عدة هدنات، إلا أن هذه المرّة مختلفة تماماً، فقد جنّبت الهدنة إسرائيل الانجرار إلى حرب استنزافٍ طويلة، لا طاقة لها بما تتطلّبه من تجييش وتعبئة للموارد والبشر ومخاطرة بالأرواح، فدائماً تحرص تل أبيب على الإمساك بزمام المبادرة والتحكّم في توقيتي بدء المواجهة وإنهائها قبل الوصول إلى تلك المخاطرة. لكن الهدنة هذه المرّة لم تكن قراراً إسرائيلياً طوعياً، وإنما خطوة اضطرارية أجبرت عليها تل أبيب. فمجريات القتال والتطوّرات العملياتية لم تسمح لنتنياهو وعصابته بأي مساحةٍ للهروب من واقع الهزيمة المُرّة، التي أمعن الفلسطينيون في تأكيدها لما يقرب من 50 يوماً من القصف العشوائي والإبادة الجماعية وقتل المدنيين.
الحقيقة أن إسرائيل هي التي كانت في أمسّ الحاجة إلى الهدنة، لتضمن استعادة مواطنيها المخطوفين لدى حركة حماس والمقاومة، ولتوقف خسائر قواتها التي لم تتوصل بعد إلى مقاتل فلسطيني واحد، أو حتى نفق واحد، ولم تستعد أي شخص "مختطف" من دون مبادلته. ما يعني أن الهدنة والتبادل حقّق لها ما فشل فيه جيشها على مدار شهر ونصف شهر. ومن المفارقات أن تلك الحاجة الشديدة لإسرائيل في التبادل تعني، في الوقت ذاته، إعلاناً رسمياً بالهزيمة عسكرياً، وبنهاية حكومة نتنياهو سياسياً. ولذا، ستسعى تل أبيب إلى إزاحة "حماس" من موقع الند أو الطرف المناظر ووضعها في مربع الحركة المنبوذة، ليس فقط إسرائيلياَ، وإنما أيضاً أوروبياً وأميركياً وأمام العالم كله، على الأقل لمحو الإهانة التي لحقت بالجيش "الذي لا يقهر"، ولضمان عدم تكرار تلك الصفعة مجدّداً، سواء من فصائل المقاومة الفلسطينية أو من غيرها.
في المقابل، لن تظلّ "حماس" متمسّكة بورقة الرهائن، بعد أن حقّقت أغراضها، وفرضت واقعاً مختلفاً، بل وجرى توظيفها سياسياً ومعنوياً ضد إسرائيل بامتياز. وسيكون الهدف الجوهري لحماس في الأيام المقبلة تثبيت المعادلة الجديدة التي صارت فيها رقماً أساسياً، لم يعد من المقبول ولا من الممكن استبعاده أو تجاهله في أية طروحات مستقبلية. وسيكون تأكيد ذلك التموقع الجديد للحركة الإسلامية غاية جهودها السياسية، مدعومة بالاستمرار في تحرّكاتها وعملياتها العسكرية، وإن بوتيرة وكثافة أقل.
الواضح أن الجانبين سيعملان بقوّة، كلّ في اتجاه عكس الآخر، على تغيير المعطيات التي أفضت إلى الهدنة. فمن ناحية، ليس من السهل على "حماس" والمقاومة تكرار عمليات الخطف وامتلاك ورقة رهائن إسرائيليين وغربيين، وستبحث عن وسائل ضغط وأوراق قوة أخرى. وعلى الجانب الإسرائيلي، لم يعد القضاء على "حماس"، الشريك رسمياً وعلنياً في اتفاق الهدنة والتبادل، هدفاً منطقياً، بل وغير مطروح واقعياً. وستّتجه تل أبيب سريعاً إلى تفاهمات وصيغ وأطراف تخلّصها من مشكلات غزّة وصفعاتها.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.