ما بعد انسحاب تركيا من "اتفاقية إسطنبول"
وقّع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 20 من شهر مارس/ آذار الحالي، على قرار انسحاب بلاده من اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع العنف ضد المرأة والعنف المنزلي ومكافحتهما، والمعروفة باسم "اتفاقية إسطنبول"، منهياً بذلك سنوات طويلة من النقاش بشأن بقاء تركيا داخلها، لكنه فجّر نقاشاً آخر، ببعد سياسي واجتماعي وقانوني، عن هذه الخطوة وارتداداتها المحتملة محلياً وأوروبياً على تركيا.
ما هي أبرز المآخذ على الاتفاقية، والتي دفعت أردوغان لتوقيع قرار انسحاب تركيا منها؟ وكيف ستتعامل الأصوات الرافضة ما جرى داخل تركيا وخارجها مع هذه الخطوة؟ وأين وكيف ستتأثر العلاقات التركية الغربية بعد هذا القرار؟ يعلل بيان للرئاسة التركية سبب الانسحاب بأنّ "اتفاقية إسطنبول" كانت تهدف، في البداية، إلى التشجيع على تعزيز حقوق المرأة "لكنّه تم التلاعب بها من شريحة تحاول تطبيع المثلية الجنسية التي تتعارض مع قيم تركيا الاجتماعية والعائلية... ولذلك، نرى اليوم أقلاماً تركية إسلامية كثيرة ترحب بهذه الخطوة التي أعادت تركيا إلى مسارها وموقعها الحقيقي في العالم الإسلامي، وبنيتها الاجتماعية والثقافية وجذورها التاريخية". وتقول أصوات مقرّبة من الحكم إنّ من يتمسّك بهذه الاتفاقية لا يبحث عن مصلحة تركيا والأتراك، وإنّ المسؤول الأول والأخير عن توريط تركيا بها هو أحمد داود أوغلو عندما كان في السلطة. "ترمي أنقرة الاتفاقية في سلة المهملات"، هذا التوصيف يلخص موقف كثيرين رافضين للاتفاقية منذ البداية أيضاً. المطلوب الآن هو "تطهير اسم إسطنبول من الاتفاقية، باتجاه القطع مع كلّ نصوصها وموادها، وإلغاء القانون رقم 6284 الذي صدر بناء على روح المعاهدة ومضمونها". ويقول وزير العدل التركي عبد الحميد غل، تعقيباً على الانتقادات الموجهة إلى الحكم بسبب الانسحاب من الاتفاقية: "لن نسمح بالمساس بحقوق المرأة. وفي القريب العاجل ستكون جملة من القوانين والقرارات الجديدة بهذا الخصوص". لكنّ المعارضة تسأل: "لماذا تنسحب أنقرة من الاتفاقية قبل إنجاز هذه البدائل وتفعيلها؟".
لعبت أنقرة دوراً أساسياً في إيصال اتفاقية اسطنبول إلى ما هي عليه اليوم، وتوقيعها والمصادقة عليها قبل الجميع في العام 2012، ثم تعود وتتراجع، بعد ثماني سنوات
تتواصل، بشكل متزايد ومتسارع، أصوات المعترضين على قرار الانسحاب من الاتفاقية في صفوف النساء والرجال على السواء، وبينهم مقرّبون من الحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، الذي وعد المواطن التركي برزم جديدة من الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويبدو أنّه أراد أن تكون الانطلاقة مع الانسحاب من اتفاقية إسطنبول لإعادة تركيا إلى أجواء الستينيات وشعاراتها وأهدافها، في عهد الراحل نجم الدين أربكان. وتلتقي تحليلات كثيرة في صفوف المعارضة عند نقطة "روح اتفاقية إسطنبول، التي تقوم على المساواة الاجتماعية في حقوق الرجل والمرأة، وليس مساواة الجنسين في مسائل لا يمكن طرح المساواة فيها أصلاً".
يقول أوغوزهان أصيل تورك، أحد أبرز قيادات حزب السعادة الإسلامي المعارض، وهو الذي استقبل أردوغان في منزله قبل أسابيع، إنّ الرئيس أبلغه بقرار الانسحاب من الاتفاقية. وتبني المعارضة على هذا القول للتأكيد أنّ الحزب الحاكم كان يريد ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: كسب أصوات الإسلاميين المعارضين له ولهذه الاتفاقية عبر خطوةٍ من هذا النوع، واستهداف أحزاب المعارضة وتجمعاتها التي قد تنقسم في ما بينها ما بين مؤيد ومعارض لهذا القرار.
لعبت أنقرة دوراً أساسياً في إيصال الاتفاقية إلى ما هي عليه اليوم، وتوقيعها والمصادقة عليها قبل الجميع في العام 2012، ثم تعود وتتراجع، بعد ثماني سنوات، لتعلن أنّ الأمور جرت بسرعة وتسرّع. تقول المعارضة إنّ التسرع هو في إقدام أردوغان على توقيع قرار الانسحاب بهذا الشكل الذي يتعارض مع الدستور والقوانين والأعراف، وإنّها تستعد للاعتراض أمام المحكمة الدستورية ومجلس شورى الدولة. والواضح أنّها ستحاول تحريك حملات شعبية وسياسية أوسع تحت ذريعة أنّ "العدالة والتنمية" من خلال تصرّف بهذا الشكل، يتجاوز صلاحياته الدستورية، وأنّ أساس المشكلة هو تغيير شكل النظام قبل ثلاثة أعوام، وترك فجوات قانونية كثيرة للاستفادة منها.
تتواصل، بشكل متزايد ومتسارع، أصوات المعترضين على قرار الانسحاب من الاتفاقية في صفوف النساء والرجال، وبينهم مقرّبون من الحزب الحاكم
المؤكد أنّ الرئيس أردوغان أراد أن يتخذ قرار الانسحاب بنفسه، وأن يتحمّل مباشرة المسؤولية السياسية والقانونية، وحتماً أنّه حسبَ ارتدادات مثل هذه الخطوة، بكلّ إيجابياتها وسلبياتها على حزبه. والواضح أيضاً أنّ قيادات الحزب الحاكم أخطأت بتوقيع الاتفاقية، وهي أرادت التراجع عنها، لكنّها كانت دائماً أمام معضلة دفع الثمن الباهظ سياسياً وشعبياً، لناحية طريقة الانسحاب منها، وعدم تقديم البديل الجاهز لملء الفراغ الذي ستتسبب به. كان عليها إقناع الملايين من النساء التركيات أولاً بأنّ قرارها بالانسحاب يخدم مصالح المرأة، وسيقدّم لها ضمانات أفضل مما هو موجود في بنود الاتفاقية. وكان عليها ثانياً إقناع قواعدها بأنّها فعلت ذلك للفصل بين أن تكون دولة مسلمة علمانية ديمقراطية منفتحة على الغرب، لكنّها متمسّكة بمعايير الشرق وخصائصه ومميزاته، وهذا هو لبّ المشكلة والنقاش في الداخل التركي بعد الآن.
حتماً، لن تعود تركيا إلى العصور الوسطى، بسبب الانسحاب من اتفاقية إسطنبول، كما يحاول بعضهم في المعارضة تقديم المشهد، ولن تكون هناك أزمات مالية أو اقتصادية بسبب هذا القرار، لكنّ العلاقة بين تركيا ومؤسسات وعواصم أوروبية عدة ستتأثر سلباً، شئنا أم أبينا. تقول القيادات السياسية في حزب العدالة والتنمية إنّ قرار الانسحاب من الاتفاقية لا يعني بأيّ شكل التهاون في مسائل حماية حقوق المرأة، لكنّ ردود الفعل الأولى الصادرة عن الأمم المتحدة والولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية دعت تركيا إلى العدول عن قرار الانسحاب. يبدو أنّ المشكلة الحقيقية التي ستواجه أنقرة هي معضلة وضع النقاط على الحروف في مسألة تبرير خطوة من هذا النوع. ويبدو أيضاً أنّ مسألة عضوية تركيا في المجلس الأوروبي والتزامها باتفاقيات هذا التكتل ومواثيقه ستكون أمام امتحان حقيقي، فيما مسألة تسريع العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي ستزداد صعوبة، خصوصاً إذا كانت تبريرات الانسحاب التي يسوقها بعض المسؤولين والأقلام المحسوبة على "العدالة والتنمية" هي المعتمدة في مواقف الردّ على المعارضين والغاضبين.
لماذا لم يستخدم الحكم حقه القانوني في التحفّظ على بنود مواد يرى فيها عقبة أو تناقضاً مع البنية الاجتماعية والدينية للمجتمع التركي، قبل توقيع اعتمادها؟ لماذا لم يحمل مسألة الانسحاب من الاتفاقية إلى البرلمان، ليقرر بنفسه ذلك، وهو الطرف الذي أقرّ اعتماد تركيا الاتفاقية، وأن يكون طرفاً فيها؟ لماذا اتخاذ مثل هذا القرار بشكل فردي من الرئيس من دون العودة إلى القواعد الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني وتركها تناقش المسألة لتقوّي يد الحكومة في البقاء أو الانسحاب؟ هي من بين أبرز الأسئلة التي تنتظر الأجوبة.
تقول المعارضة إنّ تسرعا في توقيع أردوغان قرار الانسحاب من الاتفاقية بشكل يتعارض مع الدستور والقوانين
يقول نائب رئيس حزب العدالة والتنمية ماهر أونال إنّ عملية التحضير لمرحلة جديدة في تركيا استغرقت 19 عاماً مع وصول الحزب إلى الحكم، وإنّ مرحلة الإنجازات وجني الثمار ستبدأ في تركيا. طموح كبير في صفوف الحزب الحاكم للبقاء في السلطة فترة طويلة، وهناك من يردّد أيضاً أنّ تركيا لا تحتاج هذه الاتفاقية، لأنّ قوانينها ونظمها توفر الحماية والحصانة اللازمة للمرأة. لكنّ أصواتاً معارضة تتساءل: هل يعني الإقدام على خطوة من هذا النوع، وبهذا الشكل، أنّ بعضهم في أنقرة يفكر في الانسحاب من اتفاقيات ومعاهدات مماثلة بطابع إقليمي ودولي تحت سقف المجلس الأوروبي والاتحاد الأوروبي، ومن خلال تقديم ذرائع مشابهة؟
اختار أردوغان أن يحسم هو النقاش على طريقته بين مسارين، كلٌّ منهما أصعب من الآخر: تحمّل ارتدادات خسارة أصوات القواعد الإسلامية التي يحتاجها، خصوصاً المبعثر منها داخل حزب العدالة والتنمية وخارجه، عبر التمسّك بهذه الاتفاقية أو تحمّل أعباء التضحية بها، حتى ولو أغضب تجمعات نسائية كثيرة ستقول ما عندها أمام صناديق الاقتراع. لكنّ وزير الخارجية الألماني هايكو ماس يقول إنّ المسألة لا تعني الداخل التركي وحده "فتركيا توجه إشارات خاطئة إلى الاتحاد الأوروبي، بانسحابها من اتفاقية هدفها مكافحة العنف ضد المرأة".