ما الذي كسر عين أصحاب الحق؟
أصبح الكيان الصهيونى اللقيط من الوقاحةِ والجرأةِ ما يجعله لا يسمح لفلسطينيٍّ بالدعاء لفلسطينيٍّ آخر، ماتَ مقتولًا بالرصاص الإسرائيلي، وصار يعتبر إطلاق وصف "شهيد" على الفلسطيني الذي يلقى حتفه، وهو يقاوم، أو يردّ عدوانًا، أو يحمي بيته وعرضه جريمةً يُعاقب عليها قانون الاحتلال.
يقول الخبر المنشور في "العربي الجديد" أمس إنّ النيابة العامة الإسرائيلية أمرت بإجراء تحقيقات جنائية مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة من 1948 الذين ينشرون تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، تتضمّن كلمة "شهيد"، أو آيات قرآنية، أو دعاءً لله، بحسب ما ذكره تقرير لصحيفة يديعوت أحرونوت اليومية الإسرائيلية الثلاثاء.
وكُشف عن وثيقةٍ تتضمّن تفاصيل الكلمات والعبارات المحظورة في إسرائيل بعد مناقشاتٍ سرّيةٍ أجرتها لجنة الدستور والقانون والقضاء في الكنيست الإسرائيلي، عندما ادّعى رئيس اللجنة، سيمحا روتمان، أنّ النيابة العامة كانت متساهلة للغاية بشأن محاكمة من وصفهم بـ"المحرّضين" منذ بدء الحرب على غزّة، بمن فيهم أولئك الذين نشروا آيات قرآنية على وسائل التواصل الاجتماعي.
يتزامن ذلك مع التحديثات التي أجرتها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية على قائمة الممنوعات التي تلزم بها طواقمها التحريرية وشبكة مراسليها، والتي تُشدّد على عدم استخدام كلمة فلسطين "إلا في حالات نادرة جدًا" والابتعاد عن مصطلح "مخيمات اللاجئين" لوصف مناطق غزّة التي استوطنها الفلسطينيون النازحون تاريخيًا الذين طُردوا من أجزاء أخرى من فلسطين خلال الحروب الإسرائيلية العربية السابقة، بالإضافة بالطبع إلى عدم استخدام مصطلحي "الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي" لوصف المذابح الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، و"تجنّب" استخدام عبارة "الأراضي المحتلة" عند وصف الأراضي الفلسطينية.
هذا ما يفعله الصهيوني والداعمون له، فماذا عن الإعلام العربي؟ الحاصل أنّ معظم الفضائيات العربية صارت، كسلًا أو استسهالًا، وربّما تواطؤًا من بعضها، لا تتحدّث عن الكيان الصهيوني باعتباره احتلالًا، فصارت عبارات مثل "الجيش الإسرائيلي" تتردّد في غالب الأحيان، بدلاً من جيش الاحتلال، وأصبحت عبارات مثل "المواطنين الإسرائيليين" هي الرائجة عوضاً عن المستوطنين والمستعمرين، وغير ذلك من المفردات والمصطلحات التي تتناول الوجود الصهيوني على أرضِ فلسطين، وكأنّه وجودٌ أصيل، مساوٍ تماماً للوجود الفلسطيني، بل أسوأ من ذلك صارت بعض وسائل الإعلام العربية تردّد التصنيفات الأميركية حول الفلسطينيين، بين مدنيين وغير مدنيين، وكأنّ لفلسطين جيشًاً متعدّد الأفرع، أو أنّها عضو في حلف الناتو مثلًا.
هذا الخضوع الإعلامي العربي أمام الرواية الصهيونية لِما يدور في الأراضي الفلسطينية المحتلة انعكاس للخطاب الرسمي العربي في المحافل الدولية، وهو خطابٌ استجدائيٌّ أقرب إلى تسوّل الاعتراف الصهيوني بفلسطين، ليست بوصفها دولة كاملة السيادة محترمة الحدود على الأرض، بل مجرّد لافتة موضوعة على مائدة في مجلس الأمن.
كان هذا الخضوع ظاهرًا في كلمة ممثل سلطة محمود عبّاس في جلسة مناقشة منح فلسطين عضوية كاملة في مجلس الأمن أمس، إذ لم يتحدّث الرجل بوصفه صاحب حقّ يطلبه كاملًا غير منقوص، بما يشمله من دولةٍ فلسطينيةٍ مكتملةِ السيادة، وكاملةِ الوحدة الجغرافية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967 كما يردّد الخطاب الرسمي العربي طوال الوقت، وإنّما تحدّث وكأنّه يلتمس العطف ويستجدي الرضا من رعاة الكيان الصهيوني أن يسمحوا بلافتة لفلسطين بجوار "إسرائيل"، وبدلًا من أن يؤطر الرجل مطلبه بالقرارات 242 و 338 و194 الخاصة بالحدود والسيادة وحقّ العودة، تسوّل من المجلس تطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 181 الذي اعترف بالكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
كان منطقيًا أمام هذا الانبطاح الدبلوماسي أن تأتي كلمة ممثل الاحتلال حافلة بالسخرية من كلمة "فلسطين"، ومن مشروع القرار الجزائري الذي يطالب بالاعتراف بفلسطين دولة كاملة العضوية، والسخرية كذلك من مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة نفسيهما.
يقولون في أمثالنا العربية: "صاحب الحقّ عينه قوية"، فما الذي يجعل عين صاحب الحقّ العربي مكسورةً إلى هذا الحد؟