ما الذي جرى تماماً في أفغانستان
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.
منذ الحرب الكونية الأخيرة، ربحت الولايات المتحدة كلّ معركة خاضتها، ولكنها خسرت كلَّ الحروب. حرّرت القوة العسكرية الأميركية الكويتَ من الاحتلال العراقي (1991)، وأطاحت حركة طالبان في أفغانستان (2001) والدكتاتور العراقي صدّام حسين (2003) وقتلت أسامة بن لادن (2011)، ولكنها خسرت الحرب في فيتنام أمام الشيوعيين، وأهدت العراق إلى الإيرانيين على طبقٍ من فضّة، وخسرت حربها الأخلاقية في سجن غوانتانامو، ثمّ أعادت أفغانستان إلى راديكاليي حركة طالبان الذين منعوا التعليم وألغوا العقول وحظروا الإعلام ورجموا النساء.
وحين قال الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مخاطبا قدامى المحاربين الأميركيين في فيتنام في عام 2011: "دعونا نتذكّر أنكم ربحتم كلَّ معركة كبرى في تلك الحرب. كلَّ واحدة" كان صادقا في ذلك، فقد ربحت الولايات المتحدة بالفعل كلّ المعارك الكبرى في فيتنام، بما في ذلك معركة تيت الشهيرة التي بدا أن الشيوعيين كانوا سيحققون الربح فيها. ولكن كان على الرئيس أوباما أن يضيف: "ومع ذلك خسرنا تلك الحرب".
الكارثة الكبرى التي وقعت في أفغانستان قبل أيام جديرةٌ بأن نتوقف عندها مليا، ونتأمّل الأسباب التي أدّت إليها. بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لوّح مقاتلو "طالبان" ببنادق الكلاشينكوف، وهزّوا قبضاتهم في الهواء ابتهاجا بغزوة نيويورك. وحين أرسلت إدارة الرئيس جورج بوش تحذيرا جادّا لهم لتسليم أسامة بن لادن، أو يغامرون فتقصف بلادهم "قطعا صغيرة"، رفضوا ذلك بتبجّح. ثم سرعان ما تلاشى التبجّح بمجرّد أن بدأت القنابل الأميركية في السقوط. في غضون أسابيع قليلة، فرّ عديدون من عناصر "طالبان" من العاصمة كابول، مذعورين من أزيز طائرات B-52 العملاقة. وسرعان ما أصبحوا قوة مستنفدة، متبعثرين عبر المنحدرات الجبلية القاحلة في أفغانستان.
لم تستثمر الولايات المتحدة في البنية التحتية والاقتصاد الأفغانيَّين، ولم تبنِ مؤسسة عسكرية قادرة على الدفاع عن المكاسب التي حقّقها الأفغانيون
وفي الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، بدأ قادة "طالبان" في التواصل مع حامد كرزاي، الذي سيصبح قريبا الرئيس المؤقت لأفغانستان: كانوا يريدون عقد صفقة. وإذا صدّقنا الصحافية الأميركية، أليسا روبن، التي كانت تغطي الحرب في أفغانستان في تلك السنة، فإن الوسطاء كانوا يتنقّلون جيئة وذهابا بين كرزاي ومقرّ زعيم طالبان، الملا محمد عمر، في قندهار، بحثا عن طريقة للاستسلام. ويتذكّر بارنيت روبين، الذي عمل مع الفريق السياسي للأمم المتحدة في أفغانستان في ذلك الوقت: "لقد هُزمت طالبان تماما، ولم يكن لديهم مطالب باستثناء العفو". وكان رأي كرزاي أن من شأن قبول استسلام "طالبان" أن يمنع المسلّحين من لعب أي دور مهم في مستقبل أفغانسان ويجنّب هذا البلد الانقسام. ولكنّ وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، من صقور الليبرالية الجديدة، لم يكن في حالة مزاجية للتوصل إلى اتفاق. كان منتشيا بالنصر وواثقا أن باستطاعته أن يقضي على "طالبان" مرّة وإلى الأبد. وفي مؤتمر صحافي عقده رامسفيلد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، صاح بصوت هادر أن الولايات المتحدة "لا تميل إلى التفاوض بشأن الاستسلام"، وأن الأميركيين ليسوا مهتمين بترك الملا عمر يمضي أيامه في أي مكان في أفغانستان، بل تريد القبض عليه أو قتله. غير أنها لم تفعل. عاش الملا عمر نحو أربع عشرة سنة، في أفغانستان، وقيل إنه عاش مختبئا قرب قاعدة أميركية في جنوب أفغانستان حتى وفاته، على عكس ما كان الأميركيون يردّدون من أنه غادر إلى باكستان. ولم تكتفِ الولايات المتحدة بذلك، بل إنها، كما ستفعل في العراق لاحقا، لم تستثمر في البنية التحتية والاقتصاد الأفغانيَّين، كما لم تبدأ ببناء مؤسسة عسكرية أفغانية قوية قادرة على الدفاع عن المكاسب التي حقّقها الأفغانيون بعد سقوط "طالبان"، من حرية التعليم والعمل والتنقل والتعبير وتمكين المرأة التي عادت لتصبح محامية وصحافية وقاضية وسياسية وشرطية.
حين سلّم بوش المكتبَ البيضاوي للرئيس أوباما، كان الأخير يدرك أنه قد بدأ يخسر الحرب في أفغانستان
في هذا الوقت، لجأت "طالبان" إلى باكستان، وأعادت تنظيم قواتها ومجالسها في مدينة كويتا ومن ثمّ كراتشي، لتعود بعد سنوات قليلة إلى أفغانستان، بسبب الفراغ الكبير الإداري والضعف الاقتصادي وفساد الحكومة الأفغانية. كانت الحكومة متركّزة في العاصمة كابول، بينما كانت الأقاليم تحت رحمة رجال أقوياء، من حلفاء أميركا، كانوا يقاتلون ويطاردون "القاعدة" وفلول "طالبان" من دون أن تكون لديهم القدرة ليحكموا تلك المناطق، ويحققوا فيها تنمية حقيقية. وما ساعد "طالبان" على العودة أنها، بعد أن رفض رامسفيلد عقد تسوية معها، بقيت تعتبر نفسها الحكومة الأفغانية الشرعية، التي تمّ إسقاطها بواسطة غزو خارجي "كافر"، وبقي جزء من الأفغانيين يشاطرونها هذا الرأي، لأن الحكومة والمجتمع المدني الوليد فشلا في التواصل معهم.
وفي 2003، وجدت إدارة الرئيس بوش نفسها في مستنقعٍ مرعب، حين دخلت العراق وأسقطت الدكتاتور صدّام حسين، وسرعان ما غرقت القوات الأميركية في الدماء، ما تسبّب به أبو مصعب الزرقاوي ومئات الإرهابيين الذين تدفّقوا أفواجا من الحدود السورية والسعودية إلى العراق ليغرقوه في زمن قالح من العفن الطائفي والإرهاب الذي سيؤسس لاحقا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
ووجدت إدارة الرئيس بوش نفسها مضطرّة لسحب جزء كبير من قواتها واستخباراتها وخبرائها من أفغانستان إلى العراق، ما سمح لحركة طالبان، وقد أعادت التقاط نفاسها، بتنظيم فلولها، بالعودة إلى أفغانستان. وفي 2006، عادت "طالبان" لتكون قوّة عسكرية لا يُستهان بها، وبدأت توجّه ضربات صاعقة للقوات الأميركية والحكومية الأفغانية. وحين سلّم الرئيس بوش المكتبَ البيضاوي للرئيس أوباما، كان الأخير يدرك أنه قد بدأ يخسر الحرب هناك، وكان الرأي في دوائر واشنطن أنه لا بدّ من إرسال مزيد من القوّات إلى أفغانستان، لتثبيت أركان الحكومة والدفاع عن القوات الأميركية، على أن ذلك لم يجدِ فتيلا. وبعد سنوات، صار أوباما على ثقة من أنه لا حلّ سياسيا لتلك الحرب، فلا مسلحو حركة طالبان قادرون على الربح ولا القوات الأميركية قادرة على إلحاق هزيمة كاملة بهم.
أهمل الأميركيون في أفغانستان التنمية والوظائف، ودعموا جزءاً من الأمّة في مواجهة جزء آخر، ولم يبنوا جيشاً قوياً
وجاء الرئيس دونالد ترامب بألعابه البهلوانية المعروفة، فبدأ مفاوضات مباشرة مع "طالبان" في الدوحة، من دون أن يشرك مع الطرفين الحكومة الأفغانية، فبدا بذلك وكأن الولايات المتحدة قوّة احتلال تتفاوض مع قوّة تحرّر وطنية. وأعلن ترامب أنه سيسحب قواته من أفغانستان بحلول مايو/ أيار الماضي. ثمّ جاء الرئيس جو بايدن، وفي جعبته قرار بسحب كلّ جيوشه من العالم، وإعادتهم إلى أرض الوطن.
لقد ارتكب الأميركيون في أفغانستان الخطأ نفسه الذي ارتكبوه في فيتنام سابقا وفي العراق لاحقا. أهملوا التنمية والوظائف، ودعموا جزءا من الأمّة في مواجهة جزء آخر، ولم يبنوا جيشا قويا يدافع عن المكتسبات التي حقّقها الشعب من الانتصار الأول في المعارك الأولى، وغضّوا الطرف عن الفساد الذي استشرى في الحكومة، فكان طبيعيا أن تعود "طالبان" إلى الساحة، وأن تحقّق انتصارات عسكرية، وأن يتقبلها بعض الأفغان بترحاب، وقد عانوا إهمال الحكومة لهم. وكان طبيعيا أيضا أن ينهزم الجيش الأفغاني شرّ هزيمة، وأن ينسحب بدون قتال، طالبا السلامة وتاركا وراءه كلّ الأسلحة التي قدّمها له الأميركيون، بعد أن أحسّ، ومعه المدنيون، أن الرئيس بايدن قد غدر بهم، وسحب قوّاته من دون أن يتأكّد من أنه يترك البلاد في أيد أمينة.
لا أعرف إدارة أمهر من الإدارات الأميركية المتعاقبة في تحويل الانتصارات إلى هزائم، وفي تقويض الفرص الكبيرة. حين وصل الأميركيون إلى أفغانستان استقبلهم الأفغانيون استقبال الفاتحين، وكان في وسعهم الاستفادة من ذلك لبناء دولة عصرية ديمقراطية، وشاملة كلّ أبنائها، ولكنهم أنفقوا هذا الرأسمال بسرعة باتخاذ قراراتٍ طائشة، وبدعم أشخاص فاسدين في الحكم. ولئن ذكّر ذلك بشيء، فإنه يذكّر بالفرصة التاريخية التي فوّتها الرئيس أوباما على نفسه وعلى الولايات المتّحدة، حين رفض أن يتدخّل بفاعلية في الحدث السوري، وأن يسهم في تحويل سورية إلى دولة ديمقراطية معاصرة تكون صديقة للغرب وراغبة في السلام، ومستوعبة كلّ السوريين. بدلا من ذلك، ظلّ يؤجّل اتخاذ موقف شجاع وحاسم إلى أن ذهبت سورية إلى مستنقع الدم والفساد والتقسيم والتطرّف.
باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.