ما أرادته إسرائيل من اغتيال هنيّة

01 اغسطس 2024
+ الخط -

ميّزت سياسة الاغتيالات التاريخ الدامي لإسرائيل، التي بدأت بتنفيذها منذ إنشائها عام 1948 في أراضٍ فلسطينية محتلّة، ومثّلت ركناً أساسياً في عقيدتها الأمنية، فدأبت على تصفية قادة المقاومة الفلسطينية ونشطائها، من دون أن تكترث بأي تبعاتٍ سياسيةٍ أو قانونيةٍ أو أخلاقية. وتأتي جريمة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، إسماعيل هنيّة، في طهران، كي تطرح أسئلة كثيرة بشأن المكان والتوقيت والدلالة، إذ إنّها المرّة الأولى التي تغتال فيها إسرائيل قائداً سياسياً فلسطينياً في الأراضي الإيرانية، وما تعنيه من استهداف لتلك الأراضي، وانتهاك سيادتها، الأمر الذي دفع الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، إلى القول، إنّ بلاده "ستدافع عن وحدة أراضيها وكرامتها وشرفها وكبريائها، وستجعل المُحتلّين الإرهابيين يندمون على فعلتهم الجبانة"، فيما اعتبر المُرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، أنّ "الانتقام لدم هنيّة من واجب إيران"، لأنّ الاغتيال وقع في أرضها، وأنّ "إسرائيل وفّرت أساساً لمعاقبتها بقسوة"، وبالتالي، يبرز التساؤل هنا بشأن كيفية الردّ الإيراني على العملية الإسرائيلية، وعمّا إذا كانت إيران ستهاجم إسرائيل مباشرة، أي انطلاقاً من أراضيها، أم إنّها ستعطي الضوء لحزب الله اللبناني لخوض حرب مفتوحة مع إسرائيل. ولعلّ ما يعزّز وجاهة هذا السيناريو أنّ حزب الله يتحضّر للردّ على اغتيال القائد العسكري الكبير في صفوفه، فؤاد شكر، الذي استهدفته إسرائيل في غارة على مبنى كان يوجد فيه، في الضاحية الجنوبية في بيروت، ساعات فقط من اغتيال هنيّة.

أراد ساسة إسرائيل وجنرالاتها من اغتيال هنيّة توجيه رسالة انتقامية مفادها بأنّ آلتها العسكرية العدوانية قادرة على الوصول إلى أي هدف، أو شخصية فلسطينية، في أي مكانٍ في المنطقة، فطاولت عمليات الاغتيال التي ارتكبتها ليس الأراضي الفلسطينية المُحتلّة فحسب، بل شملت أيضاً الأراضي السورية واللبنانية، ووصلت إلى الأراضي الإيرانية. ومنذ بداية حرب الإبادة الجماعية، التي تشنّها إسرائيل منذ نحو عشرة أشهر على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، صعَّدت حكومة اليمين المُتطرّف فيها من وتيرة عمليات الاغتيال، تنفيذاً لقرار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي أعلنه في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، وأمر فيه جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) باغتيال قادة "حماس" أينما وجدوا، داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها في دول الجوار. ولا يخلو لجوء نتنياهو إلى تصعيد الاغتيالات من توظيفها لأغراض شخصية، تخصّ حساباته الرامية إلى إفشال جهود وقف الحرب، بغية استمراره في التهرّب من المُحاسَبة، الأمر الذي يثير مُجدَّداً السؤال بشأن الاعتبارات التي يضعها خلف اللجوء إلى هذا النوع من الجرائم، وجدواها، ودورها في جرّ دول المنطقة إلى أتون حرب إقليمية.

عدالة القضية الفلسطينية تدفع على الدوام إلى تجديد الدماء والاستمرار في التضحية، حتّى الخلاص من الاحتلال

قد تُحقّق عملية اغتيال هنيّة مكسباً معنوياً لنتنياهو، ومعه طاقم اليمين العنصري المُتطرّف في حكومته، إلّا أنّه يبقى مُؤقَّتاً، ولن يساعدهم في مداواة فشل الآلة العسكرية الإسرائيلية، رغم تفوقها الكبير، في حسم الحرب لمصلحة إسرائيل، التي لم تتمكّن بعد قرابة عشرة أشهر من حربها البشعة على الفلسطينيين من تحقيق أيٍّ من أهدافها، سواء فيما يتعلّق بالقضاء على حركة حماس، أو تحرير الرهائن، لذلك لجأت إلى سياسة الاغتيالات. لكن إسرائيل، على الرغم من سجلّها الحافل بجرائم الاغتيال، التي طاولت، ليس شخصيات عسكرية فقط، بل شخصيات سياسية كثيرة أيضاً، فإنّها لم تُمكّن من كسر إرادة الفلسطينيين، ووقف مطالبهم بحقوقهم المشروعة، واستمرار رفضهم الاحتلال الاستيطاني، رغم الثمن الباهظ الذي يدفعونه.

جاءت العملية في وقت كانت تُبذَل فيه مساعٍ إقليمية ودولية بشأن التوصّل إلى هدنة مُؤقَّتة، وإبرام صفقة جديدة لتبادل الأسرى والرهائن، ما يعني أنّ هدف حكومة نتنياهو من ورائها هو إفشال المبادرات التي من شأنها أن تقود إلى وقف إطلاق النار، رغم قبول الولايات المتّحدة بمبادرات التهدئة ومطالباتها بعدم توسيع رقعة الحرب، الأمر الذي يُرجِّح أنّ عملية الاغتيال نفّذتها الحكومة الإسرائيلية من دون استشارة الإدارة الأميركية، إذ أفاد البيان الذي أصدرته بأنّ الطرف الأميركي "علم بالتقارير عن اغتيال هنيّة"، في حين أنّ وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، أكّد أنّه علم بالعملية، مثله مثل عامّة الناس. ويعي ساسة إسرائيل جيداً مدى ضعف الإدارة الأميركية، وانشغالاتها بسباق الانتخابات الرئاسية، وأنّها ليست في وارد التخلّي عن شعار "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، الذي يعتبرونه تفويضاً يستخدمونه في إضافة مختلف أنواع الجرائم إلى سجلّهم الإجرامي الحافل.

لا يخلو لجوء نتنياهو إلى تصعيد الاغتيالات من توظيفها لأغراض شخصية، تخّص حساباته الرامية إلى إفشال جهود وقف الحرب

يجد أعضاء حكومة الحرب الإسرائيلية في توسيع رقعة الحرب، وامتدادها إلى نطاق إقليمي أوسع، فرصة من أجل الاستمرار في تصدّرهم المشهد السياسي في إسرائيل، والاستمرار فيه أطول مدّة ممكنة، من أجل التخلّص من حدّة أزماتهم الداخلية، وإشباع رغباتهم الإجرامية، لذلك لم يتأخّر وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، في الترحيب بجريمة اغتيال هنيّة، واعتبرها "الطريقة الصحيحة لتنظيف العالم"، وهو الوزير ذاته الذي سبق أن دعا إلى قصف قطاع غزّة بقنبلة نووية.

يريد اليمين المُتطرّف في إسرائيل من عمليات الاغتيال جرّ المنطقة إلى حرب مفتوحة، ويأمل في توريط الولايات المتّحدة بالتدخّل فيها، بغرض إطالة أمد الصراع والحرب فيها، فيما تبذل الإدارة الأميركية جهوداً من أجل منعها، وكذلك من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزّة، أو على الأقلّ تغيير طبيعة العمليات العسكرية الجارية داخل قطاع غزّة، لكنّ حكومة نتنياهو ترفض ذلك، لأنّها لم تتمكّن من تحقيق انتصار عسكري يضمن لها استمرار بقائها في الحكم، أو على الأقلّ، تخفيف حدّة الانتقادات الموجّهة إليها بالفشل في الداخل الإسرائيلي، لذلك تريد الحصول على مكاسبَ آنية قصيرة المدى، يمكن أن تحقّقها عمليات الاغتيال، من دون التأمّل في السياق الاستراتيجي الواسع، ومن دون التعلّم من دروس التاريخ، التي تفيد بأن عدالة القضية الفلسطينية تدفع على الدوام إلى تجديد الدماء والاستمرار في التضحية، حتّى الخلاص من الاحتلال.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".