مايكل والزر والسقوط في وحل الحرب العادلة

25 ديسمبر 2023
+ الخط -

كشفت أحداثٌ كثيرةٌ في عالمنا الراهن أن سعي قادة وساسة دول عديدة إلى شنّ الحروب ضد الآخرين وتبريرها، ودعم من يشنّها من رصفائهم، يدخل ضمن اتّساقها مع مصالحهم الشخصية والحزبية ومصالح دولهم وحلفائهم، وهو سعيٌ مُدانٌ ومرفوضٌ إنسانياً وأخلاقياً، لكن ما لا يمكن تقبّله أن يحاول مفكّرون وفلاسفة اجتراح مبرّرات شنّ حروب الساسة، بالاستناد إلى مفاهيم كونية، ومحاولة تبريرها بذرائع لا تُقيم وزناً لأرواح البشر، ولا تأتي على ذكر الضحايا المدنيين إلا استدراكاً ومن دون أدنى تعاطف، وهو أمر كشفته مواقف اتخذها مفكّرون وفلاسفة حيال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وخصوصا الألماني يورغن هابرماس، وتبعه الأميركي مايكل والزر، الأمر الذي يستدعي التوقف عنده، والحفر في طبقات تفكيرهم وأطروحاتهم الفكرية والسياسية، بغية إماطة اللثام عن سقوطهم في وحل النفاق الأخلاقي، المعبّر عن الجُبن في مواجهة الحقيقة، حين يتعلق الأمر بإسرائيل، والذي بات ظاهرة ملحوظة لدى بعض المفكّرين في عالمنا الراهن.
ليس مبرّراً اتخاذ عملية طوفان الأقصى ذريعة للصمت عما ترتكبه إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزّة، ولا تبرير حربها الشاملة، ومحاولة إدراجها ضمن سياق الحرب العادلة، حسبما ذهب إليه مايكل والزر في حديثه مع مجلة الفلسفة، الفرنسية، (نشر على موقع المجلة الإلكتروني في 23/10/2023)، الذي لا يسمّي ما تقوم به إسرائيل حرباً، بل "عملية عسكرية" (على الطريقة الروسية)، ولا يُسعفه التشديد على ضرورة التمييز بين المدنيين والعسكريين، بوصفه أساس الحرب وقانون الحرب "العادلة"، لأنه يتجنّب سحبه على حرب الإبادة الإسرائيلية التي تتعمد فيها إسرائيل قتل المدنيين العزّل من النساء والأطفال والمسنّين، وتقصف المشافي والمدارس والأسواق وسواها من المرافق المدنية الحيوية، فضلاً عن الحصار المطبق عليهم، ومنع الغذاء والدواء وقطع الكهرباء عنهم. ومع ذلك، لا يجد والزر سوى المطالبة ببذل "كل جهد ممكن من الجيش الإسرائيلي، لتقليل التكلفة التي يتحمّلها المدنيون"، لكنه يستدرك ما قاله، كي لا يحمّل المسؤولية لإسرائيل، زاعماً أنه "ما دامت هذه الجهود الحثيثة لتقليص أعداد المدنيين مستمرّة، فلا يمكن تحميل إسرائيل المسؤولية عن مقتل المدنيين الفلسطينيين".

يحاول والزر، مثل ساسة الولايات المتحدة، أن يضفي شيئاً من العدالة وفق معياريته على الحرب الإسرائيلية

يُحاول والزر، مثل ساسة الولايات المتحدة وسواها من دول الغرب، أن يضفي شيئاً من العدالة وفق معياريته على الحرب الإسرائيلية، عبر تبطينها بمقولة "حقّ الدفاع عن النفس، التي تعطي إسرائيل "ما يبرّر سعيها إلى تحقيق العدالة. والعدالة تتطلّب هزيمة حماس"، على الرغم من أنها شنّت الحرب بدافع الانتقام الذي دفع به ساسة إسرائيل وجنرالاتها إلى أقصى حدّ ممكن، لتظهر للعالم أجمع أنها في الجوهر حرب انتقام من الفلسطينيين جميعاً، سواء أكانوا في قطاع غزّة أم في الضفة الغربية، حيث إن المسؤولين الإسرائيليين، وفي مقدمهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أعلنوا، في أكثر من مناسبة، أن إسرائيل تخوض الحرب انتقاماً مما قامت به حماس في 7 أكتوبر. وليس خافياً أنه عندما تشنّ الحرب في حالة الانتقام، يجري تجاهل كل القواعد الأخلاقية لها، بانتهاك معيار التمييز ومعيار التناسب، حيث تتم تعبئة عناصر الجيش بروح الانتقام، كي يقوموا بمختلف الأفعال الوحشية، ويخرُجوا نهائياً عما تبقّى لديهم من قواعد أخلاقية للحرب.
يصمت والزر تجاه خرق إسرائيل المبدأ الذي اعتبره في مؤلفاته أساس شنّ الحرب، والمتمثل في أنها تُخاض بغية الوصول إلى السلام، أي من أجل تأمين السبب العادل. يضاف إلى ذلك كله أنها ليست حرباً بين دولتين، بل بين جيش احتلال استيطاني وفصيل لا دولتي، ولا تجري على أراضي كيان دولتي، بل على ما حوّلته إسرائيل إلى ما يشبه سجناً كبيراً بلا سقف، وتفرض على سكانه حصاراً منذ سنوات طويلة، وأُعدته من أجل عزلهم كإجراء وقائي، وفعلت الأمر نفسه في الضفة الغربية، حيث بنت جدار الفصل العنصري، بغية حصار الفلسطينيين بانتظار إبادتهم، لأنها تعتبرهم كائنات غير مقبول الاندماج معها، وعرقياً أدنى مكانة.

اجترح مفكّرون وفلاسفة مفهوم عدالة الحرب بغية إضفاء طابع من الشرعية عليها، واضعين شروطاً لخوضها، أهمها هو الوصول إلى تحقيق السلام

المشكلة أن والزر تحدّث كثيراً عن "الحرب العادلة"، خصوصا في سبعينيات القرن الماضي، وصرف جهداً كثيراً للتمييز بينها وبين "الحرب غير العادلة"، ولتوضيح الفارق بين قانون "حقّ الحرب"، أي الحق في شن الحرب و"قانون الحرب" نفسه، أي طريقة شنها، بمعنى أنه كان مهموماً في البحث عن قانون للحرب بوصفه شكلاً من أشكال إضفاء شرعية ما عليها، أو لنقل إطلاق صفة حضارية على بشاعة الحرب. وقد اجترح مفكرون وفلاسفة مفهوم عدالة الحرب بغية إضفاء طابع من الشرعية عليها، واضعين شروطاً لخوضها، أهمها هو الوصول إلى تحقيق السلام، بحيث يمكن ضمان عدالة الحرب وعدالة ما بعد الحرب في نفس الوقت، وبما يجعل الدولة التي تشنها تمتلك سبباً مشروعاً لخوضها، وألا يتحوّل ذلك السبب إلى ذريعة لتحقيق مطالب غير عادلة، لأن الحرب العادلة، حسبما تصوّروها، تنهض على مجموعة مبادئ ومعايير أخلاقية لا تنطبق على الحرب الإسرائيلية التي تهدف إلى قتل ما أمكن من الفلسطينيين وتهجير من يتبقّى منهم، حيث لا تلزم إسرائيل في حربها على الفلسطينيين بأي مبادئ أو معايير أخلاقية، تلك التي أجمعت عليها معايير قانونية محدّدة وشرائع دينية وأفكار فلسفية، إلى جانب ما أقرّته القيم الأخلاقية الواردة في الاتفاقيات الأممية المؤسّسة لضوابط الحرب، التي تعدّ حقوق الإنسان الحجر الأساس فيها، واستند إليها والزر نفسه، لكنه يتعامى عنها حين ينظر إلى الحرب الإسرائيلية على غزّة، ولا يرجع إلى ما قاله عن حقوق الدول النابعة من حقوق مواطنيها في الحياة والحرية، بوصفها الحجر الأساس الذي يجب أن تقوم عليه الحرب العادلة، وباعتبارها أساس المبادئ الأخلاقية التي تبرّر شنّ الحرب من أجل الدفاع عن حقوق الأفراد والدول، في حال عدم إمكان الحفاظ عليها إلا بالحرب، كما أنها تشكّل أساس المبادئ التي تحافظ على حقوق المدنيين في الحرب، وتستند إلى السلام العادل بين الدول.

لم يكلف والزر نفسه النظر فيما تقوم به إسرائيل من جرائم، ولا في انتهاكاتها مفهوم الحرب

لم يكلف والزر نفسه النظر فيما تقوم به إسرائيل من جرائم، ولا في انتهاكاتها مفهوم الحرب الذي نظر له، وللمبادئ القانونية والأخلاقية التي تدخل في صلب الفكر الإنساني الكوني، لأن المهم بالنسبة إليه هو "التعبير عن التعاطف العلني مع إسرائيل". لذلك راح يبحث عن ذرائع لمنحها الحقّ في ارتكاب الجرائم وانتهاك حقوق الإنسان في غزّة، وتبريرها على حساب ما قامت به "حماس"، ليسقط في وحل معياريته عبر انحيازه ومحاولته اجتراح سياقات لتوظيف المعرفة التي يملكها خدمة لسلطة احتلال استيطاني، الأمر الذي يظهر تأجج واستفحال أفكار ومقولات لا أخلاقية في بعض اتجاهات الفكر الغربي السائد، تلتقي في نفاقها مع مفردات الخطاب السياسي للقوى المسيطرة، بوصفه خطاب قوّة، تتغلّب فيه الإرادة على العقل، وبما ينتج خطاباً صادراً عن سلطة شمولية، ومقروناً بالانفعال لفكر أحاديّ وضع ذاته خارج التاريخ.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".