ماكرون مجرمَ حرب
قبل شهر ونصف الشهر تقريباً، اتهم رئيس وزراء مالي، شوغويل مايغا، الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بدعم جماعات إرهابية في بلاده. وقد أثار هذا الاتهام علامات استفهام كثيرة حول مغزاه وتوقيته، خصوصاً أنّ هناك تعاوناً عسكرياً وسياسياً واقتصادياً كبيراً بين مالي وفرنسا، ازداد بشكل واضح خلال العقد الماضي، فمن المعروف أنّ فرنسا تتدخل عسكرياً وسياسياً في مالي منذ أوائل عام 2013، لمحاربة الجماعات المتشدّدة التي كادت تستولي على العاصمة المالية باماكو في يناير/ كانون الثاني 2013. أما الأكثر غرابة في تصريح مايغا فقوله إنّ فرنسا منعت الجيش المالي من دخول مدينة كيدال، في شمال شرق مالي، وسلّمتها لجماعة قريبة من تنظيم القاعدة. وكأنّ هناك اتهاماً مبطّناً بالتعاون بين قصر الإليزيه والجماعات المتطرّفة التي تدّعي باريس محاربتها.
والأسبوع الماضي، كشف موقع "ديسكلوز" الاستقصائي، في تحقيق صحافي، تورّط فرنسا في قتل آلاف من المدنيين المصريين في الصحراء الغربية (المصرية)، من خلال عملية استخباراتية عسكرية مشتركة مع الجيش المصري، تُعرف باسم العملية "سيرلي" وذلك منذ عام 2015. وحسب التحقيق، فقد شارك في العملية عشرة عسكريين فرنسيين بالمجال الجوي، بينهم ستة عسكريين سابقين يعملون الآن في القطاع الخاص، بينهم طيارون وأربعة محللين للأنظمة. وثمّة أحاديث عن فتح تحقيقات في الموضوع، وفي كيفية تسريب وثائق خاصة به من وزارة الدفاع الفرنسية.
أما عن الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي الذي يقدّمه ماكرون لمجرمي الحروب وسماسرتها في المنطقة العربية فحدّث ولا حرج، ففرنسا متورّطة حتى أذنيها في تقديم دعم عسكري ودبلوماسي ولوجيستي واستخباراتي لأهم وأشهر مجرم حرب في المنطقة العربية، اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي ارتكب، ولا يزال، مذابح جماعية في ليبيا، خصوصا في مدينة ترهونة التي تعج صحراؤها بجثث ليبيين. وهناك تحالف وثيق بين حفتر وماكرون في ما يخص الأوضاع في ليبيا.
تحالف وثيق بين حفتر وماكرون في ما يخص الأوضاع في ليبيا
ويعدّ ماكرون أيضاً من أهم الداعمين الغربيين لأكثر الأنظمة العربية سلطوية، وهو نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي نجح في شراء ولاء ماكرون، من خلال صفقات سلاح وعقود تجارية واستثمارية بمليارات الدولارات. ولم يكن للعملية "سيرلي" أن تتم من دون موافقة ماكرون ومباركته، وهو الذي لا يخجل من علاقته بالسيسي. بل على العكس، هو من أكثر مؤيديه بين الساسة الغربيين، ومن أهم مشجّعيه على الاستمرار في القمع، وهو الذي أهداه قبل عام وسام جوقة الشرف، أرفع وسام فرنسي، على الرغم من انتهاكاته المروّعة لحقوق الإنسان. كما يعدّ ماكرون من أهم حلفاء ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، الراعي الرسمي للأنظمة السلطوية في المنطقة، والمسؤولة عن قتل آلاف من المدنيين في اليمن وليبيا ومصر وسورية وغيرها.
وبالعودة إلى العملية "سيرلي" تقول وثائق وزارة الدفاع الفرنسية إنّ التعاون العسكري والاستخباراتي بين باريس والقاهرة بدأ في يوليو/ تموز من عام 2015، في أثناء ولاية الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، واستمرّ بعد وصول ماكرون إلى السلطة، بل ازداد التعاون بين البلدين خلال السنوات الخمس الماضية بشكل غير مسبوق، كانت نتيجته قتل ما يقرب من 40 ألف شخص مدني وتصفيتهم في الصحراء الغربية المصرية، خصوصاً بالقرب من الحدود بين مصر وليبيا. وعلى الرغم من علم ماكرون أنّ العملية لا تستهدف الإرهابيين كما يدّعي النظام المصري، فقد استمرّت في استهداف المدنيين الأبرياء من دون محاسبة أو عقاب. ومن بين ضحايا العملية "سيرلي" المهندس أحمد الفقي، الذي قُتل مع زميلين له، حين كانوا يعملون في مشروع لرصف الطرقات في مصر، وذهبوا لإحضار مياه للشرب من أحد المواقع القريبة من منطقة عملهم، وذلك قبل أن يقصفهم سلاح الجو المصري، بالتعاون مع الاستخبارات العسكرية الفرنسية، ليُقتلوا على الفور، كما تمّ تهديد عائلاتهم بألّا يتحدّثوا عن الموضوع وإلا سيُعاقبون.
يظل ماكرون وبوش وبلير، وغيرهم من السلطويين العرب الذين يقتلون شعوبهم بدم بارد يومياً، مجرمي حرب
لذلك، ستظل دماء الفقي وزملائه، وغيرهم من دماء آلاف من الضحايا المدنيين الذين سقطوا وتم قتلهم بدم بارد، في رقبة ماكرون وحلفائه. وهي جميعاً جرائم دولة يجب التحقيق فيها، وتحويل ماكرون إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وبالطبع، قد لا يحدُث هذا، وقد يفلت ماكرون من العقاب، مثلما أفلت من قبل الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش، الذي شنّ حربين مدمرتين على العراق وأفغانستان، راح ضحيتهما مئات الآلاف من القتلى، وملايين المشرّدين داخلياً وخارجياً. أو مثلما أفلت حليفه وقرينه البريطاني، توني بلير، الذي ارتكبت قواته جرائم الحرب في كلا البلدين على مدار العقدين الماضيين، وذلك قبل الانسحاب منهما. مثلما أيضاً لن يُعاقَب أوباما أو بايدن على جرائمهما في البلدين نفسيهما، وقتلهم مدنيين من خلال الطائرات المسيّرة، تحت غطاء ما يسمّى "الحرب على الإرهاب".
على الرغم من ذلك، سيظل ماكرون وبوش وبلير، وغيرهم من السلطويين العرب الذين يقتلون شعوبهم بدم بارد يومياً، مجرمي حرب، ليس فقط لأنّنا شهود أحياء على جرائمهم، لكن أيضاً في ميزان التاريخ وفي عيون ضحاياهم، وهذا هو الأهم.