ماذا يحدٌث في مشروع الاتفاق التاريخي السعودي الأميركي؟
تفيد تصريحات سعودية وأميركية بأنّه جرى التفاهم بين الرياض وواشنطن، بشأن اتفاقيات أمنية يمكن أن تكون قريبة. ويُقال إنّ الموضوع الإسرائيلي هو العائق أمام إنهاء هذه الاتفاقيات، التي يمكن أن تكون محطّة تاريخية جديدة، في الشرق الأوسط، ربما توازي في أهميتها اللقاء الشهير بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود، في عام 1945، والذي رتّب معادلات الأمن والعلاقة الأميركية الخليجية السعودية، واستمرّت الترتيبات قرابة 60 عاماً. تلك الترتيبات بدأت بالتصدّع بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وصعود المحافظين الجُدد في صناعة القرار الأميركي، ثم انحسرت كثيراً في عهد دونالد ترامب (2017 - 2021)، والآن، هناك مساعٍ جاهدة، للوصول لاتفاق جديد، يُبيّن، من بين أمور أخرى، سياسات النفط العالمية، وعلاقة المنطقة مع الصين.
يمكن اعتبار زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن السعودية، في يوليو/ تموز 2022، البداية الحقيقية لما يحدث الآن بين الرياض وواشنطن. كان بايدن يسعى في زيارته لتعويض حلفائه الخليجيين أسواقَ العالم بالنفط والغاز عند أي نقصٍ قد ينشأ عن حصار عالمي لروسيا (المنتج الثاني للنفط) على خلفية حرب أوكرانيا. وعلى العكس، نسّقت دول الخليج العربية، بقيادة السعودية، لاحقاً، مع روسيا، في إطار "أوبك +" لضبط السوق، ومنع تدهور الأسعار، وخُفّض الإنتاج بدلاً من زيادته. كانت دول الخليج تتحرّك بوازع مصلحتها الاقتصادية، لكن "التخلي" الأميركي، الأمني والسياسي، عن المنطقة، كانا حاضرين في خلفية المشهد. ففي عام 2019 تعرّضت منشآت النفط السعودية، في مناطق منها بقيق، وناقلات نفط مختلفة في مضيق هرمز، لاستهداف، وقالت واشنطن وباقي الأطراف إنّ إيران خلف الهجوم، لكنّ الرئيس الأميركي حينها، دونالد ترامب، رفض أخذ أي فعلٍ، في تراجع ضمني واضح عن ترتيبات أمنية قديمة عمرها نحو 70 عاماً، وأشار صراحة إلى تراجع أهمّية النفط الخليجي بالنسبة إلى الولايات المتّحدة.
بعد فشل الغزو الأميركي في تحقيق السيطرة على العراق ونفطه، بدأت عام 2008 خطّة حثيثة للاستقلال النفطي أميركياً
لقد بُنيت العلاقات السعودية الأميركية، وإلى حد كبير الأميركية الخليجية، منذ اللقاء الشهير بين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود، على ظهر السفينة كوينسي، في قناة السويس (14 فبراير/ شباط 1945)، على أن تشتري الولايات المتّحدة النفط من المنطقة، وتقدم في المقابل المساعدات والتسهيلات العسكرية والأمنية. بعد ذلك، تكّرست تفاهمات اللقاء عبر مواقف أميركية رسمية لم تصل إلى درجة اتفاق مكتوب. لقد عزز الرئيس دوايت آيزنهاور هذه الترتيبات، عبر إعلان رسمي عام 1957 أنّ بلاده تقدّم الدعم والحماية لمن يحتاجها من دول العالم ضدّ التدخّل الشيوعي. عدّل الرئيس ريتشارد نيكسون المبدأ عام 1969، بقوله إنّ الدّعم يأخذ شكل مساعدة الدول الحليفة في بناء قدراتها العسكرية والأمنية، ولكن ليس إرسال قوات أميركية. أعقب تراجع نيكسون، النسبي، أزمة عندما قادت السعودية بين عامي 1971 و1973 "ثورتين"؛ الأولى، قيادة منظّمة الدول المُصدّرة للنفط (أوبك) لفرض تغيير طبيعة العلاقة مع شركات النفط، و"تأميم" النفط. والثانية، الحظر النفطي، وتقليص تصديره إلى الغرب دعماً لمصر وسورية في حرب أكتوبر (1973).
جرى التوصّل إلى ترتيبات جديدة بين الرياض وواشنطن في 1974، ضمن ما يعرف باتفاق "البترودولار"، الذي كان غير مكتوب أيضاً. وفي 1980 جدّد الرئيس الأميركي جيمي كارتر تعهّدات واشنطن بكلمات قوّية صارت تعرف باسم "عقيدة كارتر"، وتعني: "أنّ الولايات المتّحدة ستستخدم القوّة العسكرية ضدّ أي بلد يحاول السيطرة على الخليج"، وكان هناك خطران آنذاك؛ السوفييتي، عقب غزو موسكو أفغانستان، والثورة الإيرانية، وكلاهما بدآ عام 1979. وطُبّق مبدأ كارتر بقوة بيد الرئيس جورج بوش الأب، ما بين 1990 و1991، عندما حُرّرت الكويت، وأخرجت القوات العراقية من هناك. بعد فشل الغزو الأميركي في تحقيق السيطرة على العراق ونفطه، بدأت عام 2008 خطّة حثيثة للاستقلال النفطي أميركياً، أي تقليص الاعتماد على نفط الخليج، والنفط المستورد عموماً، وانطلقت عملية استخراج مُكثّفة للنفط في الولايات المتّحدة، بالتوازي مع تقليص الدور الأميركي في المنطقة في عهد الرئيس باراك أوباما، وتجلّى ذلك بعدم التدخل في "الربيع العربي". إن لم يكن دعمه. وشعرت السعودية والإمارات بتخلّي واشنطن عن التفاهمات التاريخية، وعبّر السفير الإماراتي يوسف العتيبة، عن هذا الشعور، بطلبه صراحة، عام 2015 قبيل قمّة جمعت أوباما مع زعماء دول الخليج في كامب ديفيد، في بيان صحافي، أنّ يوقّع اتفاقاً مكتوباً، يُوثّق مبدأ آيزنهاور، الذي هو في جوهره مبدأ كارتر أيضاً.
بعد فشل بايدن بدا أنّ الأسس التاريخية للعلاقة الأميركية السعودية بحاجة لصيانة وإعادة رسم
توسّع ترامب في خطة الاستقلال النفطي، وأنهى قوانين تتعلق بحماية البيئة، وقدّم تسهيلات ضريبية لشركات النفط، وكانت النتيجة أنّ الولايات المتّحدة صارت بدءاً من عام 2019 تصدّر نفطاً خاماً أكثر مما تستورد، وهذا للمرّة الأولى منذ لقاء روزفلت آل سعود. وهذا جعل ترامب يتوانى عن الالتزام بالترتيبات الأمنية في الخليج. (في 2024 يزيد الإنتاج الأميركي بنحو خمسة ملايين برميل يومياً عما تنتجه السعودية التي أصبحت الدولة الثالثة عالمياً في الإنتاج، بقرارها خفضه لمنع انهيار الأسعار، فيما أصبحت روسيا المنتج الثاني، وإن بقيت السعودية أكبر دولة مُصدّرة للنفط). ردّاً على مجموعة سياسات أميركية، بدءاً من تدخّل المحافظين الجدد في عهد جورج بوش الابن (2001- 2009) بالشؤون الداخلية لترتيب الأنظمة السياسية العربية، ثمّ الاحتلال والفشل الأميركي في العراق، ثمّ الاتفاق النووي مع إيران في عهد باراك أوباما، ثم الموقف الأميركي السالب من ضربات بقيق ومضيق هرمز في عهد ترامب، بدأت السعودية إعادة تشكيل سياساتها الأمنية المُستقلّة عن واشنطن، من دون أن يعني هذا أنّ رغبتها الابتعاد عن الولايات المتّحدة، فتعزّزت علاقتها مع الصين وروسيا، وأصلحت في مارس/ آذار 2023 العلاقات مع إيران باتفاق بين البلدين.
بعد فشل بايدن (2022) بدا أنّ الأسس التاريخية للعلاقة الأميركية السعودية بحاجة لصيانة وإعادة رسم. وقبل أيام، قال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إنّ من المتوقع إبرام اتفاقيات ثنائية بين بلاده والولايات المتّحدة في القريب العاجل، وكان هذا ردّه عن سؤال بشأن احتمالات "عقد اتفاق أمني مشترك" بين البلدين. وأضاف الوزير، خلال جلسة عقدت في إطار منتدى الاقتصاد العالمي في الرياض (يومي 28 و29 إبريل/ نيسان) الماضي، أنّ "معظم العمل تمّ إنجازه بالفعل، ولدينا الخطوط العريضة لما نعتقد أنّه يجب أن يحدث على الجبهة الفلسطينية". وبشأن الموضوع نفسه، قال بلينكن إنّ "الولايات المتّحدة عملت بصورة مكثّفة خلال مارس الماضي بشأن ذلك، ومن المحتمل أن يكون قريباً جدّاً من الاكتمال". ودعا إلى ما سمّاه "العمل معاً على الدفاع المتكامل". وأوضح أنّ الولايات المتّحدة ستجري محادثات في الأسابيع المقبلة مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية؛ الستّ، بشأن دمج الدفاع الجوي والصاروخي وتعزيز الأمن البحري.
رفضت السعودية تجاهل القضية الفلسطينية في أي ترتيبات جديدة تضمّ إسرائيل
تريد السعودية اتفاق دفاع مشترك رسمياً مكتوباً مع واشنطن، يتضمّن صفقات سلاح، وتكنولوجيا عسكرية ونووية سلمية، وغير ذلك، وليمرّ ذلك، تحتاج إدارة بايدن موافقة الكونغرس، ومن دون موافقة اللوبي الإسرائيلي يبدو هذا صعباً. كما أنّ إدارة بايدن تريد الترتيبات في إطار إعادة تشكيل الشرق الأوسط بتقليص الدور الصيني. فمثلاً في سبتمبر/ أيلول الفائت (قبل أيام من عملية طوفان الأقصى)، في قمّة مجموعة العشرين في الهند، أطلقت واشنطن فكرة "الممرّ الأخضر" ليكون طريقاً تجاريّاً يصل بين أوروبا والشرق الأوسط والهند، بمشاركة إسرائيل، وهو ما يشكّل بديلاً منافساً لطريق الحرير الصيني. إذاً التطبيع مع إسرائيل مُهمّ حتّى تمرّ أي اتفاقيات خليجية أميركية في الكونغرس، وحتّى تنجح خطط إقليمية مختلفة، وإن كان ليس مقصوداً لذاته بالضرورة.
رفضت السعودية تجاهل القضية الفلسطينية في أي ترتيبات جديدة تضمّ إسرائيل، وهو ما يحاوله جاهداً نتنياهو، الذي طالب مراراً، ومنها في سبتمبر الفائت، في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بـ "عدم منح الفلسطينيين فيتو (حقّ النقض) بشأن اتفاقات السلام الجديدة مع الدول العربية". أثبتت 7 أكتوبر، وجاهة التوجّه السعودي بضرورة مقاربة الشأن الفلسطيني، لا من منطلق الالتزام العربي المشترك وحسب، بل لأنّ القضية الفلسطينية رقم صعب في أي معادلات إقليمية، ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، وتصل تداعياتها إلى الشوارع العربية والعالمية.
القضية الفلسطينية رقم صعب في أي معادلات إقليمية، ويمكن أن تنفجر في أي لحظة، وتصل تداعياتها إلى الشوارع العربية والعالمية
دار حديث، في الأسابيع الفائتة، عن إمكانية التطبيع مع إسرائيل مقابل امتناع نتنياهو عن اجتياح منطقة رفح في قطاع غزّة، وعملية سياسية لحلّ القضية الفلسطينية. وقال الصحافي الأميركي الصهيوني توماس فريدمان، صاحب العلاقات الواسعة مع الرسميين في الشرق الأوسط والولايات المتحدة، في عموده الصحافي، في "نيويورك تايمز" (24 إبريل/ نيسان 2024)، "إسرائيل لديها خيار: رفح أو الرياض"، وسأل "هل تريد إسرائيل حملة شاملة في رفح، لمحاولة إنهاء حماس، إن كان ذلك ممكناً أصلاً، من دون تقديم أي استراتيجية خروج إسرائيلية من غزّة أو أي أفق لحلّ الدولتين، مع فلسطينيين لا تقودهم حماس؟"، ويخاطب نتنياهو "إذا سرت في هذا الطريق فإنّ هذا سيفاقم عزلة إسرائيل العالمية، ويؤدي لخراب حقيقي في العلاقة مع إدارة بايدن". ويسأله "أم تريد تطبيعاً مع السعودية، وقوة حفظ سلام عربية في غزّة، وتحالفاً أمنياً بقيادة أميركية ضدّ إيران؟". نتنياهو، يعتقد دائماً أنّه قد يأخذ كلّ شيء؛ التطبيع وفلسطين كاملة من دون فلسطينيين، لذلك لم يُبدِ أي مرونة تجاه البحث عن صفقة إقليمية تتضمّن تراجعاً عن سياساته ضدّ الفلسطينيين.
الآن، هناك ثلاثة سيناريوهات. الأول، الوصول لترتيبات خليجية أميركية لا تصل إلى درجة توقيع اتفاقيات، وبالتالي لا تعود موافقة الكونغرس ضرورية، في هذه الحالة، ستنفصل الملفّات الفلسطينية عن باقي الملفّات، وستستمر الحرب، ولكن هذا لن يُلبّي المطالب الخليجية، إذ لن يكون بالإمكان توقيع اتفاقيات كبرى، بل ستكون تفاهمات غير مكتوبة، واتفاقيات جزئية. وهذا لن يُهدّئ الملفّ الفلسطيني، وسيحدث هذا بطبيعة الحال بسبب التعنّت الإسرائيلي. السيناريو الثاني، أن يقتنع نتنياهو، أو يُجبر، على تقديم تعهدات في غزّة والمسألة الفلسطينية، بحيث يحاول لاحقاً نقضها، كما فعل مراراً، خصوصاً في اتفاقيات الخليل وواي بلانتيشن عام 1999، ويحصل مقابلها على تطبيع ما، وإذا حدث هذا من دون حلّ فعلي للقضية الفلسطينية، فإنّ المنطقة مُتّجهة إلى التوتر شعبيّاً.
السيناريو الثالث، الإصرار عربيّاً، وسعودياً، على تقدّم فعلي في القضية الفلسطينية، وهو ما يمكن أن ينجح إذا جرى الإصرار عليه، وتجنيد دعم عربي ودولي لأجله. في المقابل فإنّ الولايات المتّحدة لا تقدّم فقط تعهدات أمنية جزئية، بل تتراجع عن الإصرار على دمج إسرائيل في المنطقة، وتبحث عن استراتيجية شاملة للتعامل مع المنطقة، تأخذ بالاعتبار حلّ القضايا العالقة، ومنها الموضوع الفلسطيني.