ماذا لو تركوا اعتصام رابعة من دون فضٍّ بالقوة؟
يأبى الحزنُ إلا أن يأتي مضاعفًا ومكثفًا في الذكرى التاسعة للرابع عشر من أغسطس/ آب الحزين في مصر.هذه المرّة يضرب في كنيسة بحي إمبابة الشعبي، فيحصد أرواح أكثر من أربعين شخصًا، معظمهم أطفال كانوا يدرسون في دار حضانة داخل المبنى.
هذا اليوم المؤلم للذاكرة يأتي وسحابة من القلق على المستقبل تلتحم بسحابة سوداء قادمة من الماضي القريب، ولا تريد أن تنقشع، فيكون المناخ قاتمًا ومشبعًا بالحزن على الدماء التي أريقت من دون أن يحاسَب على إراقتها أحد، وعلى المياه التي أهدرت بقرار فردي من الشخص ذاته الذي اتخذ قرار سفك الدماء.
لمناسبة ذكرى أشد أيام المصريين حزنًا، حين جرت عملية قتل مئات من المواطنين المعتصمين في ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر، هناك سؤال افتراضي: ماذا لو لم تُقدم السلطة الحالية على عملية فضّ الاعتصامات بالقوة المسلحة؟
على الرغم من أن الأسئلة الافتراضية بشأن الماضي قد تبدو عديمة الجدوى، إلا أن من الممكن أن تؤسس الإجابة الصادقة عن السؤال لمستقبل أقلّ دماءً وأوفر ماءً، وخصوصًا إذا نظرنا مليًا في تفاصيل الصورة الراهنة، حيث يبدو وكأن الكل عالقٌ في دماء رابعة.
الناجون من المذبحة، وذوو الضحايا، وهم بالملايين في كل ربوع مصر لا يزالون هناك عند تلك اللحظة التي اكتشفوا أن وطنهم يتعاطى معهم باعتبارهم تحت مستوى المواطنة، ومن دون مستوى الإنسانية، إلى الحد الذي يتم فيه حرقهم أحياء داخل الاعتصام، وسط زفةٍ قوميةٍ فاسدة تحاول تصوير عملية الإبادة بحقهم عملًا وطنيًا مقدسًا.
وفي الناحية الأخرى، السلطة التي حكمت بشرعية المذبحة لا تزال مؤرّقة بمحاولات انتحال شرعية أخلاقية تغطي بها الدماء التي لا تزال على يديها، بعد أن تبيّن أن تسع سنوات من الأمر الواقع، داخليًا وخارجيًا، لم تمنحها ذلك الشعور بأنها في مأمنٍ من حساب الضمير والواجب الأخلاقي، ويتفاقم هذا الإحساس، كلما خاضت أكثر في مستنقعات الفشل المؤكّد في القضية الأهم بالنسبة للمصريين، وهي قضية مياه النيل.
بالعودة إلى السؤال: ماذا لو تركوا الاعتصامات من دون قصفٍ بالمدفعية الثقيلة وسفك الدماء، هل كانت مصر ستصبح أسوأ مما هي عليه الآن من انقسامٍ مجتمعي، أفقيًا ورأسيًا، في ظل اختناق كامل للحرية بمفهوميها العام والفردي؟
الشاهد أنهم لو كانوا قد تركوا الاعتصام تحت حصارهم من دون استعمالٍ للقوة الغاشمة، فإن احتمالين لا ثالث لهما، كانا هناك في تلك اللحظة: إما أن تتناقص الحشود شيئًا فشيئًا وتتلاشى في النهاية إحباطًا ويأسًا من تحقيق المطالب والأهداف الخاصة باستعادة المسار السياسي المهدر والمخطوف .. أو ينجح هذا الاعتصام في الامتداد، ليجتذب شرائح وفئات وأطيافا إضافية من مكونات المجتمع، بحيث تتّسع أرضيته السياسية لتستوعب قطاعاتٍ مختلفة من جمهور ثورة يناير، فتشكّل قوة ضغط هائلة تفرض حلولًا سياسية لازمة، حملتها عديد المبادرات التي ضربت السلطة الصاعدة عرض الحائط بها فيما بعد.
الشاهد في ذلك كله أن معطيات ما جرى تثبت أن فضّ الاعتصام، بهذه القوة والوحشية، كان مقصودًا في ذاته، إلى الحدّ الذي يمكن القول معه إن الحرص على إفشال مبادرات التسوية كان أولوية مطلقة لدى الذين خطّطوا وقرّروا توفير الغطاءين، الإعلامي والأمني، لتنفيذ مذبحة الفضّ.
في تلك اللحظة السابقة على الفضّ، أدركت السلطة الخطر المحدق بمشروعها، والمتمثل في علاماتٍ على أن من شأن استمرار الاعتصام تأكيد أن القيم الأخلاقية أقوى من القنابل أحيانا ، وأن استفاقة الضمائر أشدّ من زخّات الجهل والتجهيل التي كانت تنهال على جمهور المصريين في ذلك الوقت، لاستعداء الناس ضد المعتصمين، والذي لامس تخوم الجنون، بالكلام عن أسلحة ثقيلة وغوّاصات نووية ومقابر جماعية تحت الاعتصام، أو ما نشرته "الأهرام" عن ذلك الاكتئاب الذي أصاب شمبانزي حديقة الحيوان نتيجة اعتصام ميدان نهضة مصر، أو هذا الخرف الطافح من التليفزيون المصري، حين يقول إن المعتصمين يحاولون تنفيذ مؤامرةٍ لتلويث هواء القاهرة باستخدام بالونات معبأة بالهواء الملوث، أو الزعم أن "الإخوان" هم السبب في سقوط الأندلس.
كل هذا الجنون كان يأتي في سياق حملةٍ مسعورةٍ تحاول تصوير المعتصمين وكأنهم قطيع من الحمقى المغرّر بهم، ليصل الاستعلاء العنصري ببعضهم إلى اعتبار أنهم مختطفون من جماعة الإخوان، ومحشودون بلا وعي أو إرادة ضد الانقلاب العسكري، وهذا هراءٌ تفضحُه بيانات ونوعيات شهداء الاعتصامات، من أساتذة جامعات وأطباء ومهندسين ومعلمين وطلاب جامعات، أزعم أن مصر خسرت بقتلهم آلافا من العقول والكفاءات، كان من الممكن أن تقلّل من حالة البوار التي تتردّى فيها البلاد الآن.
من دون إغلاق ملف المذبحة، بشكلٍ عادل وإنساني ونزيه، سوف يبقى جرح مصر مفتوحًا لا يتوقّف عن النزف.