ماذا عن إمبراطورية بوتين؟
اختار الرئيس الروسي بوتين ما اعتقد أنه الوقت الأنسب لبدء غزوه أوكرانيا، وقدَّر أنها فرصة مواتية لتسجيل انتصارٍ سريع، وتحقيق الحلم الإمبراطوري الذي يؤمن به، وقرّر أن يكون الهجوم وسط الشتاء وفي قمة الطلب الأوروبي على الغاز الروسي، وحدّد شهر فبراير/شباط شديد البرودة، ليستغلّ الحاجة الماسّة لإمدادات الغاز. ووسط الانخفاض القاسي في درجات حرارة الطقس، كانت القارّة الأوروبية تعيش حالةً من عدم الاستقرار السياسي، فقد غيّرت بريطانيا رئيس وزرائها عدّة مرّات بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما زالت حائرة في إدارة ما بعد "بريكست". وكانت ألمانيا في مرحلة انتقالية، بعد أن تأكد خروج أنجيلا ميركل التي قادت السياسة هناك 15 سنة ظهرت فيها بصماتها الشخصية على القارّة كلها، وشكّل وجودها حلفا أوروبيا قويا منع انهيار دول الاتحاد الأوروبي الجنوبية. ورأى بوتين أن الجدل الأوروبي الحادّ بشأن المهاجرين يمكن أن يُحدث نقطة قوة لصالحه، تسهّل عملية الحسم السريع. أما النقطة الأهم، والتي كان بوتين يعوّل عليها، فهي سرعة انهيار الجبهة الداخلية الأوكرانية، في ظل صعوباتٍ اقتصاديةٍ وعدم رضى عن أداء الرئيس زيلينسكي.
وضع بوتين كل تلك النقاط في جعبته، وحاول الإطباق على العاصمة الأوكرانية كييف من جهتين، لكنه فوجئ بمقاومة أوكرانية ضارية، وموقف أميركي شديد الصلابة. رغم انشغال الإدارة الأميركية بالصين، إلا أن موقفها من الحرب كان عاملا مهما في إجبار بوتين على تغيير تكتيكاته العسكرية والسياسية، فكانت أولى خطواته سحب القوات التي اندفعت نحو كييف، وتركيز هجومه على المناطق الشرقية، ومحاولة التقدم البطيء لتحصين ما يملك.
لدى بوتين رغبة في عودة التاريخ إلى ما قبل انهيار الدولة السوفييتية، عندما كانت كييف جزءا أساسيا منها. لذلك يريد أوكرانيا شبه دولة تسبح في الفلك الروسي، مبرّرا ذلك بالأصل المشترك. ومن خلف بوتين، يؤمن روسٌ كثيرون بهذه النظرية. ومن هذا الباب، يعارض بشدّة انضمامها إلى حلف الناتو، فهو لا يسمح بوجود كيان مكتمل مستقلّ الهوية كان يوما ما جزءا من التراث الروسي، منضمّاً إلى تجمّع عسكري معاد، وقد غامر بالحرب للاستحواذ على أوكرانيا، وقطع الطريق على "الناتو" في كسب عضوٍ جديد، قد يشكّل خطورة وتهديدا على وجود بوتين نفسه في السلطة. لذلك حاول، طوال العشرين عاما الماضية، أن يهيمن على أوكرانيا، وكانت حرب 2014 مقدمة لذلك، كسب فيها ضم جزيرة القرم. ولكن المشكلة أصبحت أكثر استعصاءً منذ ذلك الوقت، فتوّج جهوده بالغزو في 2022، معتقدا أن حالة القارّة المتأزّمة وحالة أوكرانيا الاقتصادية وانغماس بايدن في جنوب الكرة الأرضية، بالقرب من الصين، سيجعلون حربه قصيرة الأمد وسريعة النتائج.
بعد مرور 16 شهرا على الحرب، تنقلب الطاولة في وجه بوتين، حين تتلقّى أوكرانيا مزيدا من الأسلحة ومزيدا من التمويل السخي، وكثيرا من التعاطف الجارف، وتزداد جبهتها الداخلية تماسكا مع أخبار المعارك المشجّعة وصمود الجيش الأوكراني الذي نجح في تشويه سمعة السلاح الروسي، وفقدت روسيا ميزتها بتفوّقها في توريد الطاقة، حين سارعت القارّة إلى إيجاد بديل، وأمّنت احتياجاتها في الشتاء، وتوقّفت تماما أنابيب خطوط الشمال، وتعرّض أحدها للتدمير رغم أنه لم يوضع قيد التشغيل بعد. ولكن ما قد يجعل الموقف أكثر قتامةً في وجه بوتين تغيير فرنسا موقفها، وموافقتها على انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وكانت بريطانيا قد أعربت عن قبولها ذلك، وفي موقفٍ كهذا يجد بوتين نفسه قد تراجع عدة خطواتٍ إلى الوراء، وفقد أوكرانيا نهائيا رغم التكاليف البشرية والمالية الضخمة التي قدّمها، فهو في وضع عسكري شبه متجمّد، ولا أمل له في مزيد من التقدّم، لتصبح هذه الحرب مجرّد مغامرة اعتقد بوتين أنه حسبها بدقة، لكنه غالبا أخطأ في التقدير.