ماذا تفعل المعارضة المصرية بعد الانتخابات؟
ما هو موقف المعارضة المصرية بعد الانتخابات الرئاسية التي انتظمت أخيرا، والتي أعلنت، كما كان متوقّعا، عن فوز المرشّح عبد الفتاح السيسي، بـ 89% من الأصوات بحضور 45% من الناخبين؟ وما هي دلالات تلك النتيجة في علاقتها بهذا المشهد؟ يمكن القول إن هذه النتيجة كانت متوقّعة منذ إقرار التعديلات التي أجريت على دستور 2014 لاحقا، والتي سمحت للسيسي بمد فترته الرئاسية ثماني سنوات إضافية بعد عام 2022.
قد تكون النتيجة استمرار الوضع الحالي في حال بقاء النهج ذاته الذي يتبنّاه النظام منذ عام 2014، التضييق على أيّ حراكٍ سياسيٍّ وحزبيٍّ حقيقي يستطيع تغيير المعادلة، أو يمثل تحدّيا للقواعد التي وضعها لتشكيل المشهد، من خلال ترسانة القوانين المقيّدة للحرّيات وسيطرة المكوّن الأمني، بما يؤدّي إلى السيطرة الكاملة على إدارة العمليّة السياسية. فهل سيستمر هذا المشهد بالقواعد نفسها بين أغلبية مصنوعة وداعمة للنظام؟ ومعارضة مهمّشة؟ أو يمكن أن يتغيّر بفعل عوامل أخرى داخلية أو خارجية؟ وما هي بدائل (ومواقف) أحزاب المعارضة، وتحالف الحركة المدنية في القلب منه ركنا أساسيا منه، في المستقبل القريب؟
يضم هذا المشهد ثلاثة أطراف بشكل أساسي: الأول، حلف سياسي يصطفّ وراء النظام يتكوّن من المؤسّسة الأمنية والعسكرية والقضاة، وجزء كبير من رجال الأعمال، وبعض قيادات الحزب الوطني والنواب السابقين والمنتمين للعائلات الكبيرة التي يمثل لها البرلمان إرثا عائليا لا تتخلّى عنه مهما تغيرت السلطة، والذي يستفيد اقتصاديا من كل السياسات المتبعة. وطرفها الثاني معارضة مدجّنة قبلت دخول القفص الذهبي للنظام، مقابل مكاسب شخصية متفق عليها. وتسعى إلى تسويق موقفها بمكاسب سياسية محدودة، لكنها غير مؤثرة إجمالا. وطرفها الثالث معارضة أخرى تبدو جذرية، تهدف إلى التغيير، من دون امتلاك أدوات القوة المادية والجماهيرية، والتي تمثلها الحركة المدنية؟
جميع الأطراف تعرف قواعد اللعبة، وأهدافها، ونتيجتها، ومع ذلك تكملها إلى النهاية، ويبقى الجمهور مشاهدا
السؤال هنا: هل يمكن أن تلعب الحركة دورا فاعلا في تغيير هذا المشهد، وتتّجه إلى خياراتٍ أخرى، أم ستظل على وضعها الحالي بالدعوة إلى إصلاح لا يأتي؟ وتكتفي بانتظار خطواتٍ لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولا تحقّق نتائج مؤثرة على المسار السياسي.
من ناحية أخرى، فشلت رهانات بعض الأحزاب على التقارب مع أجهزة الدولة بالمشاركة في "الحوار الوطني"، وهو ما فعلته الحركة المدنية ذاتها، بالرغم من رفض شروطها الأساسية لهذا الحوار، واستمرار آلة الحبس الاحتياطي المطوّل، الشرسة، والتدوير لآلاف من سجناء الرأي. كما رشّح الحزب المصري الديمقراطي رئيسه في الانتخابات، بالرغم من غياب أي ضمانات للنزاهة. وكانت مسألة الترشح فارقة في العلاقة بين أحزاب الحركة المدنية التي فضّلت أقلية منها المشاركة فيما تبنّت الأغلبية مقاطعة تلك الانتخابات، بسبب غياب الضمانات التي طالبت بها، وهو ما قد يؤثّر على بنيان الحركة المدنية مستقبلا. ولكنها لم تعمل على تسويق فكرة المقاطعة وفق آلياتٍ محدّدة، أو بناء رأي عام يتبنّى هذه الدعوة بكل الأشكال، ولم تعلّق على مسار العملية الانتخابية أو نتائجها.
وبدت نتائج الانتخابات تلقي بظلالها السلبية على أحزاب ترشّح رؤساؤها، فحزب الوفد، مثلا، دخل في أزمة داخلية بسبب احتلال رئيسه المركز الأخير (الرابع)، وفقا للنتيجة المعلنة. ويبدو أن الساحة المصرية تشبه لعبة القطّ والفأر، فجميع الأطراف تعرف قواعد اللعبة، وأهدافها، ونتيجتها، ومع ذلك تكملها إلى النهاية، ويبقى الجمهور مشاهدا بدون قدرة على المساهمة في التغيير. ويصبّ هذا الوضع الحالي، في النهاية، لمصلحة مشروع الهيمنة الذي يتبنّاه النظام، لعدة أسباب أهمها: عجز قوى المعارضة الجذرية عن تقديم مشروع سياسي واضح، يمكن أن يقف وراءه الجمهور والرأي العام. ولم توضح هذه المعارضة أهدافها وغاياتها ورؤيتها الرئيسية: هل هي مع التغيير الكامل، أم تتبنّى الإصلاح التدريجي، وما هي خطواتها واستراتيجيتها للقيام بهذا المشروع، مهما استلزم من تضحيات.
لم تنجح المعارضة في القيام بمعارك ملموسة لتعطيل الإجراءات الاقتصادية التي يتّبعها النظام منذ عام 2016
ولم تحاول مخاطبة المواطنين الذي يبحثون عمّن يقف بجانبهم في ظل تردّي أوضاعهم الاقتصادية، والمعيشية، فلا يجدون أحدا، حيث اكتفت تلك المعارضة بتنظيم لقاءاتٍ داخل مقارّها وإصدار البيانات، التي فشلت في تسويقها لدى الرأي العام، وعزلت نفسها عن الجماهير إلا في بعض الحالات الاستثنائية. وتركت المساحة لأجهزة الدولة تمارس قهرها طولا وعرضا على جمهورها الطبيعي، الذي بات عاجزا عن الحراك السياسي والجماهيري بدوره ربما باستثناء بعض المحاولات النقابية والمهنية، التي تظهر على استحياء للدفاع عن مصالحها.
من جهة أخرى، لعب جزء من هذه المعارضة وفق قواعد النظام، وتعاونت معه، من خلال بعض الترضيات الهامشية. وفي المقابل، سعى النظام إلى توريطها وتحميلها معه أسباب الأزمة، فأصبحت شريكة، رغم أنها ليست في موقع المسؤولية. وفي السياق، لم تنجح المعارضة في القيام بمعارك ملموسة لتعطيل الإجراءات الاقتصادية التي يتّبعها النظام منذ عام 2016، ومنها سياسات الاقتراض وبيع المصانع والأصول، كما فعلت قبل ثورة 25 يناير.
ولم تخض معارك القوى المجتمعية الرئيسية سواء العمّال والفلاحين في السنوات الأخيرة، باستثناء بعض المناوشات الجزئية التي اكتفت فيها بالمساندة من بعد، وكانت آخر معركة جماهيرية خاضتها الدفاع عن جزيرتي تيران وصنافير في 2016، واللتان سلمهما الحكم للسعودية.
حاول جزءٌ من المعارضة رفع شعار أن خوض المعركة مع النظام يتم بالنقاط، وليس بالضربة القاضية
في المقابل، كانت معارضة نظام حسني مبارك واضحة وجريئة وجذرية، واستطاعت نزول الشارع دفاعا عن حقوق المصريين، وابتدعت الأشكال السياسية والجماهيرية لمواجهته، مثل الحركة المصرية للتغيير (كفاية) والجمعية الوطنية، واستوعبت جيلا كبيرا من الشباب والعمّال والمهنيين، ونجحت في القيام بثورة 24 يناير التي أطاحت النظام. ولكن بعض المعارضة على استعداد للمناورة وتحقيق مصالحها الشخصية، وكسب المواقع في المؤسّسات التي أوجدها النظام ليضع فيها نخبته المؤيدة والداعمة. وقد راهن كثيرون على الحركة المدنية لتقوم بهذا الدور، إلا أنها لم تنجح في تقديم البديل، وبناء ظهير شعبي وراءها، تستطيع الاعتماد عليه ويعتمد عليها في صياغة أهدافه وتحقيق أحلامه، وتحوّلت أحزابها إلى منتدياتٍ للنخبة، كما رضي بعض أعضائها ببعض المكاسب الشخصية في مجلسي النواب والشيوخ وغيرها. ونجح النظام في المقابل في استمالة بعضهم منها وإيجاد نخبته موازية من خلال أشكال أخرى، مثل تنسيقية والشباب ومؤتمراتهم. وفي المقابل، غابت المعارضة داخل النقابات المهنية، والعمّالية، والفلاحية، والجامعات. وحاول جزء من المعارضة رفع شعار أن خوض المعركة مع النظام يتم بالنقاط، وليس بالضربة القاضية، فهل نجحت؟ وماذا حقّقته بالفعل؟ هذا هو السؤال المهم.