ماذا بقي من المشهد الحزبي في تونس؟
منذ بدء الإجراءات الاستثنائية في مثل الشهر الحالي (يوليو/ تموز) من سنة 2021، حصلت تغيرات مسّت بنية العمل الحزبي في تونس، ومع تجميد مؤسسات مختلفة وإلغائها، مثل مجلس النواب والمجلس الأعلى للقضاء وهيئة مكافحة الفساد، وما تبعها لاحقا من إقرار دستور جديد وانتخاب برلمان بصلاحيات محدودة ووفق قانون انتخابي مستحدَث، أصبح واضحا أن الأمر يتعلق بإعادة صياغة المشهد السياسي والدستوري في البلاد بشكل مختلف تماما عن المسار الديمقراطي الذي عرفته تونس إثر ثورة جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2011.
رغم العدد الكبير للأحزاب الناشئة بعد التحوّل الديمقراطي، لم تتمكّن هذه القوى الحزبية، على كثرتها، من التجذّر في الواقع السياسي التونسي، رغم أن بعضها شارك في السلطة وكان لبعضهم حضور مؤثر في الحكومات المتعاقبة وفي البرلمان المنتخب. ومن هنا، ظهر نوع من التمايز بين القوى الحزبية المتنوّعة يمكن تفصيلها على النحو التالي: قوى حزبية انحازت إلى السلطة الجديدة وحاولت استغلال المرحلة من أجل المشاركة في السلطة. وتنحصر هذه القوى في حركة الشعب وأحزاب أخرى صغيرة، منها ما تشكل لتأييد المرحلة الجديدة، غير أن هذه القوى سرعان ما وجدت نفسها خارج حسابات الحكم، حيث لم يكن أمامها إلا التأييد، رغم أن النظام الجديد تعامل معها بكل برود وخيّر التحرك سياسيا وفق رؤيته التي لا تحبّذ الأحزاب وتعتبرها معطّلا للمسار السياسي الجديد.
دخلت الأحزاب السياسية حالة من الجمود والعجز عن بناء برامج سياسية مستقبلية، وأصبحت تتصرّف بمنطق ردود الفعل
وأحزاب أخرى وجدت نفسها في موقع المعارضة السياسية، اضطرارا أو اختيارا، وهي، في الغالب، قوى سياسية تتزّعمها شخصيات تاريخية للعمل السياسي في تونس، وكانت معارضة لنظام بن علي، ومنها نجد حراك شعب المواطنين بزعامة الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي وحركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي (رئيس البرلمان المنحل) والحزب الجمهوري بزعامة عصام الشابي وأحمد نجيب الشابي وحزب العمّال بقيادة حمة الهمامي. وقد اصطفت هذه الأحزاب أمام ما تعتبره انقلابا. ورغم اختلافها في تقدير الموقف وتحميل المسؤوليات بشأن حماية المسار الديمقراطي، فإنها تتفق على معارضة الإجراءات السياسية والدستورية الحاصلة، وتعرض بعض قيادات هذه الأحزاب للمحاكمة والاعتقال، وأصبح نشاطها تحت الرقابة الأمنية، بما جعلها تفقد قدرتها على التعبئة والاحتجاج.
أما القسم الثالث من القوى الحزبية فقد دخلت في حالة من الجمود الطوعي. ورغم أنها كانت تساهم في السلطة، ولها مشاركة في الحكم، فحزب تحيا تونس الذي يقوده يوسف الشاهد (رئيس حكومة سابق)، وحزب البديل التونسي بقيادة مهدي جمعة (رئيس حكومة سابق)، وحزب نداء تونس وحزب آفاق تونس (شارك في الحكم بعدد مهم من الوزراء)، ومثله التيار الديمقراطي، اختارت الانكماش، وكشفت عن حالة من الهشاشة التنظيمية والعجز السياسي بشكل غير متوقع، فهذه الأحزاب عجزت حتى عن إصدار بياناتٍ لتوضيح مواقفها. والظاهر أنها فقدت مبرّر استمرارها كأجسام سياسية، في ظل اختفاء قيادتها المؤسسة أو اكتفائها بمراقبة المشهد السياسي الجديد الذي يتشكّل تدريجيا في ظل توازنات مختلفة، أصبحت تقوم على الثنائية سلطة/ معارضة التي حلت محل البنية السابقة بين أحزاب برلمانية وأخرى خارج البرلمان.
أصبحت إعادة تشكّل المشهد الحزبي في تونس ضرورة ملحّة تفرضها على الأحزاب ضرورة وضع تصوّر واضح للمستقبل
من سمات المشهد السياسي الحالي تشكّل نظام سلطوي هجين، حيث لا يملك النظام حزبا سياسيا يحكم من خلاله البلاد، ولم يحلّ الأحزاب أو يمنع النشاط السياسي، بالإضافة إلى وجود هامش للنقد الإعلامي، وحرية جزئية للتعبير. وفي المقابل، دخلت الأحزاب السياسية حالة من الجمود والعجز عن بناء برامج سياسية مستقبلية، وأصبحت تتصرّف بمنطق ردود الفعل، أي انتظار الخطوات التي تتخذها السلطة، وهو ما جعلها لا تملك تصورا واضحا لما يمكنها إنجازه في المرحلة المقبلة. وإذا استثنينا الأحزاب الموالية، وتلك التي توقفت فعليا عن النشاط، فإن القوى الحزبية التي اختارت معارضة النظام الجديد وجدت نفسها في مأزق حقيقي من ناحيتين، أولاهما القدرة على التواصل مع الشارع وإقناعه بصوابية خياراتها، وثانيا إيجاد درجة من التنسيق بينها بما يتجاوز خصومات الماضي والتنازع السياسي والإيديولوجي المتوارث. وإذا كان تشكيل جبهة الخلاص الوطني مبادرة مهمة نحو توحيد هذه الأحزاب، إلا أنها لا تكفي لتجميع كل القوى السياسية والاجتماعية للتحوّل إلى قوة مؤثرة وقادرة على التغيير.
أصبحت إعادة تشكل المشهد الحزبي في تونس ضرورة ملحّة تفرضها على الأحزاب ضرورة وضع تصوّر واضح للمستقبل، بالإضافة إلى محاولة اجتذاب النخب غير الحزبية، نظرا إلى أهمية الاختيارات التي تتبنّاها في فترات السيولة السياسية والاضطراب الاجتماعي، وما تمثله هذه الخطوة من حيث لزومها لمنع تحول السلطة من حالتها الهجين إلى سلطة احتكارية مطلقة، تسيطر على كل موارد القوة والنفوذ في المجتمع في المجالات السياسية والاجتماعية. ومن الواضح أن هناك تحوّلات حاصلة في المزاج العام للفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وهو ما يعني انتظار تشكّل توازنات جديدة في المشهد التونسي.