ماذا بعد تأجيل الانتخابات الفلسطينية ..؟
الإرباك الذي يبدو عليه المشهد الانتخابي في فلسطين كان وما زال يمكن تفاديه، وقد جاء خطاب الرئيس محمود عباس مساء الخميس، بحضور قيادات من فصائل، ليدلل على هذا الإرباك، من دون تبديده نهائيا، وذلك بصرف النظر عن النيات الوطنية الحسنة، بإجراء انتخابات في القدس. إذ كان يفترض، منذ البداية، قبل تحديد موعد الانتخابات التشريعية أن تجري مشاورات واسعة ومكثفة مع عواصم إقليمية ودولية، ومع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بشأن العزم على إجراء انتخابات تشريعية طال الأمد من دون إجرائها منذ عام 2006، تاريخ آخر انتخابات. لقد تم الانشغال بترتيب البيت الداخلي، وجرت اجتماعات ماراثونية للفصائل في القاهرة، وتم التجسير في المواقف بين حركتي فتح وحماس، وبدا كل شيء مهيأ للوفاء بهذا الاستحقاق، غير أنه، خلال ذلك، تم إرجاء النظر في العقبات التي تضعها سلطة الاحتلال أمام إجراء الانتخابات في القدس، وذلك خلافا لاتفاق موقّع بين الطرفين في عام 1995، وقد تم التزام تل أبيب سابقا بذلك الاتفاق، علما أن الاتفاق الذي تتنصّل منه تل أبيب حاليا مجحف، حتى مع قبول إجراء الانتخابات في القدس، إذ نص الاتفاق على أن يتم الاقتراع في مكاتب البريد الإسرائيلية، كما حدث في العامين 1995 و2005 وللانتخابات الرئاسية في عام 2006. وقد تذرّعت سلطات الاحتلال بأن صعوباتٍ لوجستية تحول دون مشاركة جميع الناخبين، وفي الحصيلة تم السماح لعدد يزيد قليلا عن ستة آلاف بالاقتراع. في هذا العام 2021، يزيد عدد المسجّلين عن 21 ألف شخص، ومعنى ذلك أنه حتى لو استجابت سلطة الاحتلال لحق المقدسيين في الاقتراع، فإن أقل من ثلث الناخبين سوف يُتاح لهم ممارسة هذا الحق. ولا يتعلق الحال بالعدد المتاح له حق الاقتراع فقط، بل إن التصويت في مراكز إسرائيلية يجعل من المقدسيين أشبه بجالية أجنبية في مدينتهم. ومع ذلك، يتنصل الاسرائيليون من الاتفاق. غير أن تل أبيب، وبعيدا عن الضجيج، سعت هذا العام إلى عرقلة إقامة الانتخابات، ليس في القدس الشرقية المحتلة وحدها، بل في عموم الضفة الغربية، وذلك حين رفضت منح الاتحاد الأوروبي الحق في مواكبة عملية الانتخابات، ومراقبة عمليات الاقتراع، وما يليها من إجراءات. فيما عبّرت عن رفضها إجراء انتخابات في القدس بإعطاء أجوبة شفوية سلبية رافضة للأمر، ثم تذرّعت بعدئذ بعدم تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة للبتّ في المسألة. مع أنه كان جل المطلوب تفعيل الاتفاق السابق، وعدم التدخل في هذه الانتخابات باعتبارها شأناً فلسطينيا، وليست شأنا إسرائيليا.
عدد المسجّلين في القدس للانتخابات نحو 21 ألف شخص، حتى لو استجابت سلطة الاحتلال لحق المقدسيين في الاقتراع، فإن أقل من ثلث الناخبين سوف يُتاح لهم ممارسته
والبادي أن السلطة الفلسطينية قد قدّرت أنه ما إن يتم الإعلان عن مواعيد إجراء الانتخابات، حتى يتجند "المجتمع الدولي"، وبالذات الاتحاد الأوروبي وعواصم إقليمية فاعلة، للضغط على إسرائيل لحملها على تسهيل إنفاذ هذا الاستحقاق بغير عراقيل، مع التغافل عن التراجع في مكانة القضية الفلسطينية إقليميا ودوليا، وعن انشغال عواصم المنطقة بتطورات ساخنة في اليمن والعراق وليبيا وسورية وشرق البحر المتوسط وأوكرانيا، وعودة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، ما يستدعي بذل جهود مضاعفة، وحتى تسخين الأجواء. وكان الأمر وما زال يستحق شن معركةٍ سياسيةٍ عنوانها وفحواها أن سلطة الاحتلال تعمل على إعاقة البناء الديمقراطي للمؤسسات الفلسطينية، وأنها في الوقت الذي تنتقل فيه من انتخابات إلى أخرى، في غضون عامين، فإنها تُنكر على الطرف الآخر ممارسة حقه في إرساء حياة سياسية طبيعية ومزدهرة وفقا للمعايير العصرية. وكان الأمر وما زال يقتضي اهتبال وصول إدارة ديمقراطية إلى البيت الأبيض من أجل بسط هذه القضية، ووضعها على جدول اهتمامات الإدارة الجديدة، وذلك تساوقا مع المؤشّرات الإيجابية التي صدرت عن هذه الإدارة، وبالذات طي الصفحة الكالحة لما سميت "صفقة القرن"، والعودة إلى الأخذ بمبدأ حل الدولتين. وذلك جنبا إلى جنب مع التواصل مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي ترفض التسليم بالأمر الواقع في القدس المحتلة (القدس عاصمة للاحتلال).
المطلوب أن ينشط السجال السياسي مُلتزماً بروح المسؤولية الوطنية، وألا يؤدّي إلى تجديد التناحر والقطيعة بين مكونات البيت الفلسطيني
والآن، ومع التوصل إلى قرار بإرجاء الانتخابات، بأغلبية كبيرة في اجتماع القيادات برام الله، وبغياب ممثلي حركي حماس والجهاد الاسلامي، وهو قرار كان متوقعا، فإن الخشية أن يتحول هذا الاستحقاق إلى موضوع لنزاع داخلي، عوض أن يكون مناسبة للضغط على الاحتلال. وذلك ناجم في الأساس عن الإدارة الخاطئة لهذا الاستحقاق، التي تقلبت بين الاستعجال والحماسة الشديدة وبين التباطؤ والتريث، بغير ما تمحيصٍ كافٍ للظروف السياسية ولإمكانية تحسين هذه الظروف في أمد قريب. علماً أنه لو كانت العلاقات أفضل مما هي عليه بين الفصائل والتيارات السياسية، ولو كانت الأمور تُدار بنسق جماعي وعدم تغليب المصالح الحزبية والفئوية على الالتزامات الوطنية لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه من اضطراب وتخبط. والمهم الآن، وبعد هذا الإرباك الذي كان يمكن تفاديه أو الحد منه، أن تُحسن السلطة، ومعها بقية الفصائل، إدارة المرحلة المقبلة، بالتمسّك بإجراء الانتخابات التشريعية في أقرب الآجال، وفي جميع أنحاء الوطن (أراضي العام 1967) وأن يتم طرح شعار "لا انتخابات بدون القدس" جانبا، والاستعاضة عنه بسياسة عنوانها بذل كل الجهود لإجراء الانتخابات في أقرب وقت، وفي كل مكان من الأراضي المحتلة. وذلك حتى لا يفيد الطرف الآخر من قرار التأجيل، واستخلاص نتيجة مفادها بأن الاحتلال نجح في تعطيل الانتخابات. حقا أعاق الاحتلال حتى الآن تنظيم العملية الانتخابية، غير أن ذلك ينبغي أن يزيد التمسّك بإجرائها، بوضع الأطراف الإقليمية والدولية والإقليمية المعنية أمام مسؤولياتها، بإلزام القوة القائمة بالاحتلال بالكفّ عن سلوكها العنصري والتخريبي، وتكريس خلاصةٍ سياسيةٍ تفيد بأنه لا يكفي أبداً أن تجري انتخاباتٌ لدى الجانب الإسرائيلي، بل لا بد للجانب الفلسطيني أن يُجري الانتخابات في الأراضي المحتلة في أفضل الظروف، وضمن أفضل المعايير، من أجل توفير بيئة مناسبة لإعادة تحريك العملية التفاوضية. وخلال ذلك، من دواعي الاستبشار أن يتم الإقرار بأهمية الانتفاضة الشعبية السلمية في خطاب الرئيس محمود عباس، بعد طول حظر للنشاط الجماهيري وتقليلٍ من أهميته. وحسنا أيضا التوجه إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، كما أسفر عن ذلك اجتماع القيادات، علما أن تشكيل حكومة كهذه يتبع عادة إجراء الانتخابات ويكون ثمرة لها. والمأمول والمطلوب، في جميع الأحوال، أن ينشط السجال السياسي مُلتزما بروح المسؤولية الوطنية العالية، وألا يؤدّي إلى تجديد التناحر والقطيعة بين مكونات البيت، بما يكرّس الانقسامات السامّة.