ماذا بعد الهدنة؟

30 نوفمبر 2023
+ الخط -

لا يصبّ اتفاق الهدنة المؤقتة في قطاع غزّة في مصلحة الاحتلال، قياسا للأهداف التي كان قد سطّرها في بداية عدوانه، وأبرزها تحرير المحتجزين الذين أسرتهم المقاومة في أثناء هجومها على العمق الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، والقضاءُ على حركة حماس، وتفكيكُ بنيتها السياسية والأمنية والإدارية، وضربُ حاضنتها الاجتماعية والأهلية، بتهجير سكّان القطاع إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. ولكن إخفاقه في تحقيق هذه الأهداف، أو بعضها على الأقل، فرض عليه قبول اتفاق هدنة وصفقةٍ لتبادل الأسرى بوساطة قطريةٍ مصريةٍ أميركية.

وعلى الرغم من أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، فقد نجحت المقاومة الفلسطينية في جرِّ قوات الاحتلال إلى مواجهةٍ تبدو شبيهة بالمتاهة. صحيحٌ أن الأثمان التي دفعها، ولا يزال، سكّان غزة باهظةٌ جدا، إلا أن أداء المقاومة أحدث ارتجاجا غير مسبوق في الدولة والمجتمع الإسرائيليين. فلأول مرة، منذ 1948، تهتزّ ثقة الإسرائيليين بمؤسّساتهم الأمنية والاستخبارية والعسكرية، ويجدون أنفسهم، أمام أسئلةٍ مرعبةٍ على صلةٍ بجذور الصراع ومساراته ومآلاته، في المنظور البعيد، أمام ''عدوٍّ فلسطيني'' يرفض التسليم بالأمر الواقع، ويصرّ على الصمود والاستبسال في الدفاع عن حقوقه الوطنية المشروعة.

لم يقتصر أداء المقاومة على المواجهة العسكرية فقط، بل أبانت، أيضا، عن كفاءة دبلوماسية في إدارة مفاوضات تبادل الأسرى وإطلاق سراح المحتجزين، بفرضها هدنةً مؤقتةً بأقلّ الخسائر الممكنة. وبذلك وجد الاحتلال نفسَه أمام مأزق حقيقي؛ فمن ناحية، بات ملفّ المحتجزين لدى فصائل المقاومة رقما رئيسا في معادلة المواجهة الحالية، في ظل الضغوط التي تمارسها عائلاتهم على حكومة نتنياهو. ومن ناحية أخرى، كان للاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مدن عربية وعالمية أثرها في زيادة الضغط الدبلوماسي على إسرائيل، خصوصا بعد تشكُّل كتلة جديدة داخل الرأي العام الغربي مؤيدةً للفلسطينيين، ومستعدةً، أكثر من أي وقت مضى، لقبول روايتهم بشأن الصراع. أربكت هذه الاحتجاجات صنّاع القرار في أكثر من عاصمة غربية، خصوصا بعد أن أصبحت مطالبها تتمحور حول إقرار هدنة تسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة.

تتيح الهدنة الإنسانية المؤقتة للمقاومة الفلسطينية التقاط أنفاسها، ورصّ صفوفها من جديد، وتقييم أدائها الميداني والسياسي والإعلامي، وإعادة توزيع مقاتليها وفق حساباتها وأولوياتها في المرحلة المقبلة من الحرب، المتوقع أن تشهد معارك ضاريةً إذا ما أصرّت قوات الاحتلال على توسيع توغّلها البرّي نحو جنوب القطاع. كما تسمح الهدنة، من الناحية الإنسانية، بإدخال مزيد من المساعدات الضرورية من غذاء وعلاج ووقود، بعد الدمار الهائل الذي لحق بمختلف مرافق الحياة في القطاع جرّاء القصف الإسرائيلي الوحشي.

في المقابل، لا يصبّ إقرار الهدنة وتمديدُها في مصلحة حكومة نتنياهو، ذلك أن استئنافَ القتال بعد انتهائها المتوقّع صباح اليوم الخميس، والاستمرارَ في التوغل البرّي نحو جنوب القطاع، واستهدافَ قدرات المقاومة، وتحريرَ باقي المحتجزين، ذلك كله يجعل من الصعب على حلفاء إسرائيل في الغرب الاستمرار في دعم عدوانها وتبريره بدفاعها عن النفس، سيما أن فترة الهدنة كشفت حجم الكارثة الإنسانية في غزّة جرّاء المجازر التي ارتكبها الطيران الحربي الإسرائيلي. ولذلك، ستجد الحكومة الإسرائيلية صعوبة في حيازة التغطية السياسية والأخلاقية لمواصلة عدوانها بالوتيرة نفسها التي كانت قبل إقرار الهدنة، هذا إضافة إلى أنها مُلزمة أمام الرأي العام الإسرائيلي بتحرير من تبقى من المحتجزين لدى المقاومة. ومن المتوقّع أن تكثف عائلاتهم ضغوطها من أجل وقف إطلاق النار، بما يسمح بتوسيع عملية تبادل الأسرى.

يصعب التكهّن بمآل المواجهة الحالية في غزّة، لكن الأكيد أن الاحتلال يواجه مأزقا حقيقيا، وقد تصبح المفاوضات غير المباشرة مع المقاومة المخرج الوحيد بالنسبة له لإقرار هدنةٍ أخرى، تفضي إلى وقف إطلاق النار.