ماذا بعد الاتفاق النووي؟

27 نوفمبر 2022
+ الخط -

الاتفاق مع إيران بشأن خططها النووية المستقبلية مشروع أميركي يخصّ الحزب الديمقراطي في المقام الأول. وقد ساق الديمقراطيون في حملاتهم الانتخابية المختلفة وعوداً بتحقيق اتفاق مع إيران يحدّ من طموحها النووي، في مقابل التنازل قليلاً في ملف العقوبات المفروضة. وقاد الرئيس الديمقراطي السابق، باراك أوباما، جهوداً محمومة مع شركاء أوروبيين، بينهم روسيا، لتوقيع الاتفاق، ليضعه في خانة منجزاته الهامة، لكن رأياً آخر كان للجمهوريين، وقد ذهب بعض صقورهم إلى التصريح بالرغبة في التخلص من مكوّنات البرنامج النووي الإيراني بطريقة عسكرية، وذلك بتوجيه ضرباتٍ محدّدة إلى مرافق هذا البرنامج في الداخل الإيراني. ولم يُخفِ معظم الجمهوريين سخريتهم من سذاجة اتفاق أوباما، وقد عبّر الرئيس السابق، دونالد ترامب، عن احتقاره هذا المنجز، فألغى الاتفاق، وأعاد فرض العقوبات على إيران، حتى أوصلها إلى حدود قياسية، ومن دون أن يطرح حلاً سياسياً سوى المطالبة الحثيثة بتوقيف هذا البرنامج ومعاملة إيران معاملة العدو.

بعد عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، عبر الرئيس جو بايدن، طُرِح مشروع إحياء الاتفاقية، وبدا الرئيس الجديد متعجلاً وجاداً إلى درجة أنه وافق على العودة إلى الاتفاقية القديمة ذاتها دون تعديل جوهري، بل أبدى مرونة تجاه الطلب الإيراني بالتعويض نتيجة الضرر الذي حاق بإيران بسبب إلغاء الاتفاقية، لكن الطلب الإيراني بتقديم ضمانات بعدم إلغاء أي رئيس أميركي لاحق التعامل بها، أوقف العملية، لأن تحقيق هذا الطلب لا تملكه إدارة بايدن، وقد صرّحت بذلك لمفاوضيها الإيرانيين بقولها إن تعهد بايدن لكم لا آلية له لتنفيذ مثل هذا الشرط. كذلك أبدى بايدن تصلّباً تجاه مطلب إيراني سابق شكّل العقبة الحقيقية من دون إنجاز الاتفاق، وهو طلب إيران وقف الوكالة الدولية للطاقة النووية كل تحقيق بشأن برنامجها النووي.

توقف كل شيء عند هذه النقطة، مع بقاء أجواء من التفاؤل تسود الوسط السياسي بنجاح الاتفاق بعد جولة مفاوضات أخرى تتحرّك فيها المواقف باتجاه الانفراج، لكن ما حدث كان مختلفاً، فقد انشغلت إيران بشؤونها الداخلية وتركت مفاوضاتها النووية جانباً، وجنّدت شرطتها وأدواتها القمعية لإعادة السيطرة على الشوارع الغاضبة، وزادت من نشاطها العدواني تجاه الغرب، بتوريد أسلحة ومعدّات حربية إلى روسيا، الأمر الذي رفضته أميركا، لكنه عزّز التقارب الإيراني الروسي، وزاد الحذر الأميركي في التعامل مع كل ما يتعلق بإيران، باعتبارها الحليف الأقرب لموسكو، وتشكِّل أحد مصادر التسلح التي تساعد فلاديمير بوتين في إطالة حربه، وخصوصاً الطائرات الموجّهة من دون طيار التي تنشط في الأجواء الأوكرانية. في هذه الظروف التي تتباعد فيها المواقف، تلجأ إيران إلى سياسة تقليدية، هي إظهار المزيد من التشدّد، فيبدأ نشاطها النووي بالتسارع مع تسليط أكبر ضوء عليه، وقد أعلنت الأسبوع الماضي زيادة التخصيب إلى نسبة 60% في رسالة واضحة المعاني.

وصل الأمر في سبتمبر/ أيلول الماضي إلى حالة استسلام ظهرت على المتفائلين بإعادة إحياء الاتفاق، بعد أن وجّه أعضاء في مجلس النواب الأميركي، معظمهم ديمقراطيون، تحذيراً إلى الرئيس بايدن بشأن الاتفاقية، وأبدوا توجّساً من الجانب الروسي الذي توغل بعيداً في الجرح الأوكراني، وتسمّيه الاتفاقية طرفاً مؤتمناً، يجب أن يخزّن، بما لديه من منشآت، كل ما خُصِّب من يورانيوم في إيران. ويوافق الاتفاق أيضاً على عقود بقيمة عشرة مليارات دولار تبرمها إيران مع روسيا لقاء أعمالٍ في قطاع الطاقة النووية. الموقف الأميركي من روسيا مختلف الآن، وينظر بحذر شديد إلى التقارب الإيراني الروسي، ما يجعل أي دعوة إلى تجديد الاتفاق النووي محلّ شك، خصوصاً أن الحرب الروسية الأوكرانية مرشّحة للاستمرار مدة، سيبقى خلالها التهديد النووي الإيراني قائماً، وقد يزداد خطره أكثر، ما سيتطلب مواجهة بديلة تختلف شكلاً ومضموناً عن استراتيجية الاتفاق.