ماذا بعد إحالة أزمة سد النهضة إلى مجلس الأمن؟
مرّت أزمة سد النهضة الإثيوبي بمراحل مختلفة، لكل منها سمات ودلات خاصة، غير أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى شكل خطوة في اتجاه التصعيد، وليس الحل:
المرحلة الأولى، المفاوضات المباشرة بين أطراف الأزمة، وهي مرحلة استغرقت ما يقرب من عقد، وشهدت تطوّرا مهما، حين تمكّنت كل من مصر والسودان وإثيوبيا من التوصل إلى اتفاق حول "إعلان مبادئ"، وقعت عليه قيادات الدول الثلاث في الخرطوم يوم 23 مارس/ آذار 2015. غير أنه تبين فيما بعد أن إبرام هذا الاتفاق لم يكن كافيا لحسم النزاع، خصوصا بعد أن بدا واضحا أن لكل من الدول الثلاث الموقعة عليه فهما خاصا لبنوده العشرة، فمصر والسودان يريان أنه وضع الأسس لمعادلة متوازنة، تقوم على إقرار دولتي المصب بحق دولة المنبع بالمضي في بناء السد، مقابل التزام الأخيرة بعدم إلحاق أي ضرر بالحقوق والمصالح المصرية والسودانية. لكنه يظل مع ذلك مجرد إعلان نياتٍ يحتاج إلى أن يُترجم إلى اتفاق ملزم.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن مصر والسودان اعتبرتا إبرام اتفاق "إعلان المبادئ" مرحلةً انتقاليةً مهمة، يتعين أن تعقبها مرحلة تالية أكثر أهمية، يتواصل خلالها التفاوض بحسن نيةٍ إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق نهائي ملزم حول كيفية ملء السد وتشغيله، بطريقةٍ تضمن عدم وقوع ضررٍ على أيٍّ من الأطراف المتعاقدة. ويجب تضمين هذا الاتفاق النهائي والملزم، وفقا لرؤية كل من مصر والسودان، نوعين من الآليات: فنية، تتمتع بصلاحية تحديد الضرر إن وقع. قانونية، يمكن اللجوء إليها للحيلولة دون وقوع ضرر أو للتعويض عن الخسائر التي نجمت عن وقوع الضرر بالفعل. أما إثيوبيا فكان لها فهم آخر مختلف تماما، ترى أنه لا ينبغي للاتفاق النهائي أن يكون ملزما من الناحية القانونية، ومن ثم يكفي أن يتضمّن "قواعد إرشادية" ليس لها طابع إلزامي، ولا ضرورة، في الوقت نفسه، لأن يتضمّن آلياتٍ فنيةً أو قانونيةً دائمة ومحدّدة سلفا، لأنه يمكن للأطراف المختلفة أن تتفق على ما تحتاجه من هذه الآليات عند الضرورة، حسب كل حالة على حدة، الأمر الذي أدّى إلى اتساع الفجوة تدريجيا بين مواقف دولة المنبع، من ناحية ومواقف دولتي المصب من ناحية أخرى. وقد استمر الوضع على هذا المنوال إلى أن اقترب موعد الملء الأول الذي كان مقرّرا له أن يبدأ في أوائل شهر يوليو/ تموز عام 2020. وهنا بدا واضحا أن أطراف الأزمة باتت غير قادرةٍ على حل الخلافات التي استحكمت فيما بينها، وأن الأمر بات يتطلب تدخل طرف ثالث وسيطا.
حين أصبح واضحا أن الأزمة دخلت من جديد في طريق مسدود، بدأ تفكير كل من مصر والسودان يتجه نحو عرض النزاع على مجلس الأمن
المرحلة الثانية: دخول الاتحاد الأفريقي على خط الأزمة، بعد وصول المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية إلى طريق مسدود، خصوصا حين تقدّم رئيس جمهورية جنوب أفريقيا ورئيس الاتحاد الأفريقي العام 2020، الرئيس ماتاميلا رامافوسا، باقتراحٍ يقضي بأن تستأنف المفاوضات المباشرة، ولكن تحت الإشراف المباشر للاتحاد الأفريقي هذه المرة، وهو ما قبلته الأطراف الثلاثة. وقد لاح الأمل في تحرّك الأزمة نحو الحل، حين تمكن رامافوسا من عقد اجتماع غير عادي لمكتب الاتحاد الأفريقي لرؤساء الدول والحكومات يوم 26 يونيو/ حزيران، فقد شارك فيه رئيس مصر، بصفته عضوا في مكتب الاتحاد، وكل من رئيس وزراء إثيوبيا ورئيس وزراء السودان، اللذين قبلا دعوة وجهت إليهما لحضوره. ولأن رئيس المفوضية الأفريقية كان قد أعدّ تقريرا لعرضه على هذا الاجتماع، أشار فيه إلى أن أكثر من 90% من القضايا موضوع التفاوض بين أطراف الأزمة الثلاثة تم حلها، فقد ساد الاجتماع جو من التفاؤل الحذر، خصوصا وأنه شدّد على أهمية التوصل إلى نتيجةٍ يكون الجميع فيها رابحا، وتعهدت فيه قيادات الدول الثلاث أطراف النزاع بالامتناع عن الإدلاء بأي بياناتٍ أو اتخاذ أي إجراءٍ من شأنه تعقيد العملية التي يقودها الاتحاد الأفريقي، أو تعريضها للخطر.
يشعر الرأي العام المصري بقلق بالغ على مستقبله، خصوصاً إذا ما فشل مجلس الأمن ونجحت إثيوبيا في فرض الأمر الواقع
سرعان ما تبدّدت الأجواء المتفائلة عقب هذا الاجتماع، مع إقدام إثيوبيا على الملء الأول بشكلٍ منفرد، وقبل التوصل إلى اتفاقٍ ملزم تطلعت إليه كل من مصر السودان. وعلى الرغم من تواصل الجهود التي بدأها رامافوسا، خصوصا بعد تولي رئيس أوغندا، يوري موسيفني، رئاسة الاتحاد الأفريقي بداية عام 2021، إلا أنها ما لبثت أن تعثّرت من جديد، بسبب إصرار الجانب الإثيوبي على رفض التوصل إلى اتفاق ملزم، والعمل على فرض الأمر الواقع. وحين بات واضحا أن الاتحاد الأفريقي لا يملك من الصلاحيات والسلطات ما يمكّنه من إقناع الأطراف المتنازعة بتسويةٍ مقبولةٍ أو بفرض تسويةٍ يقترحها هو، تقدمت السودان باقتراح جديد لتوسيع نطاق المفاوضات الجارية تحت قيادة الاتحاد الأفريقي، لتشمل كلا من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو الاقتراح الذي أيدته مصر ورفضته إثيوبيا. وحين أصبح واضحا أن الأزمة دخلت من جديد في طريق مسدود، بدأ تفكير كل من مصر والسودان يتجه نحو عرض النزاع على مجلس الأمن، وهو ما حاولت إثيوبيا رفضه أيضا، لكنها عجزت عن منعه.
المرحلة الثالثة: دخول مجلس الأمن على خط الأزمة. لم يعكس إصرار كل من مصر والسودان على طلب انعقاد مجلس الأمن لمناقشة أزمة السد الإثيوبي، اقتناعا بأن لدى المجلس حلا سحريا يمكن أن يقنع به الأطراف المتنازعة، أو يفرضه عليها، وإنما عكس إحساسا طاغيا باقتراب الأزمة من مرحلة انفجار مسلح ينبغي العمل، بكل الوسائل، على تفاديه، فقبيل انعقاد جلسة مجلس الأمن، يوم الخميس 8/7/2021. أدلى مندوب فرنسا لدى مجلس الأمن ورئيسه الحالي، نيكولاس دي ريفيير، بتصريحات قال فيها "لا أعتقد أن لدى مجلس الأمن الخبرة لتحديد كمية المياه التي يجب حصول كل دولة عليها، فهذا أمر يخرج عن نطاق المجلس وقدرته.. وأقصى ما يمكن للمجلس أن يقوم به هو دعوة الأطراف إلى العودة إلى مائدة المفاوضات". ومع ذلك، تعدّ موافقة المجلس على تخصيص جلسة علنية لمناقشة أزمة السد الإثيوبي، في حد ذاتها، إقرارا ضمنيا بأن استمرار هذه الأزمة وتصاعدها قد يؤدّي إلى احتكاكٍ من شأنه تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر. ولأن حماية السلم والأمن الدوليين هي من صميم عمل اختصاص مجلس الأمن، فسوف يستحيل عليه أن يدّعي عدم الاختصاص، ومن ثم سيكون لهذه الخطوة ما بعدها، بصرف النظر عن نوعية (أو مضمون) القرار أو البيان الذي قد يصدره في نهاية الجلسة أو الجلسات التي ستخصص لمناقشة الأزمة. وعلى أي حال، من الواضح أن أطراف الأزمة تتعامل مع هذه الخطوة، كل من منظور مدى تأثيرها على الوضع الداخلي للنظام الحاكم في المقام الأول. وعلى سبيل المثال، من المتوقع أن يواصل رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، والذي مني بهزيمة قاسية وغير متوقعة في حربه مع إقليم التيغراي، وما زال ينتظر نتائج انتخاباتٍ تشريعية جرت في بلاده أخيرا، محاولاته الرامية إلى دفع الشعب الإثيوبي للالتفاف حول قضية السد التي يفترض أنها تساعد على توحيد صفوفه، ومن ثم مواقفه المتعنتة الرامية إلى فرض سياسة الأمر الواقع على جميع الأطراف. لذا يرجّح ألا يبالي بأي نداءٍ يمكن أن يصدر عن مجلس الأمن بافتراض تبني مشروع القرار التونسي، لمناشدة إثيوبيا وقف العملية الأحادية الجارية حاليا، أو تحديد مهلة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر للتوصل إلى اتفاقية ملزمة بشأن تعبئة الخزان وتشغيل السد.
الأغلبية الساحقة من الشعب المصري تبدو مقتنعة تماماً بأن الهدف النهائي لإثيوبيا تركيع مصر
أقصى ما يمكن أن يؤدي إليه هذا الرفض زيادة عزلة إثيوبيا، وربما تعريضها لمزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية الدولية التي قد لا تُجدي معها سبيلا. أما بالنسبة لمصر، والتي أظهر نظامها الحاكم قدرا كبيرا من المرونة والصبر، فلا يبدو أن أمامها من خيار آخر سوى الذهاب إلى صدام عسكري مع إثيوبيا، دفاعا عن حقها في الوجود، خصوصا أن الأغلبية الساحقة من الشعب المصري تبدو مقتنعة تماما بأن الهدف النهائي لإثيوبيا تركيع مصر، من خلال التحكّم في تدفق مياه نهر النيل، وليس التنمية أو توليد الكهرباء. لذا تشكّل خطوة اللجوء إلى مجلس الأمن سلاحا ذا حدّين بالنسبة للنظام الحاكم. فهي قد تمنحه، من ناحية، مهلة إضافية لتحسس وقع أقدامه وإعادة ترتيب أوراقه بشكل أفضل، لكنها قد تعجّل، من ناحية أخرى، باقتراب لحظة الحسم، ودفعه إلى الذهاب إلى حد المواجهة العسكرية التي تبدو حتمية بالنسبة لكثيرين، فموافقة مجلس الأمن على عقد جلسة علنية لمناقشة سد النهضة تنطوي على رسالةٍ موجهة إلى الرأي العام المصري، مفادها بأن سبل التسوية بالوسائل السلمية لم تستنفد بعد بالكامل. وبالتالي، على النظام الحاكم أن يواصل السير على هذا الطريق حتى نهايته، تجنّبا لاتهامه بارتكاب عدوان، إن تعجّل في اللجوء إلى القوة. ومع ذلك، رفض إثيوبيا المتوقع للمناشدات المحتمل صدورها عن مجلس الأمن سيعجل حتما باقتراب لحظة الحسم، خصوصا وأن هذه المناشدات ستستند، في حال صدورها، إلى الفصل السادس من الميثاق، وليس إلى الفصل السابع الذي يُستبعد تماما أن يلجأ إليه مجلس الأمن في معالجته أزمة السد الإثيوبي.
يشعر الرأي العام المصري بقلق بالغ على مستقبله، خصوصا إذا ما فشل مجلس الأمن ونجحت إثيوبيا في فرض الأمر الواقع. لذا يبدو جاهزا ومستعدّا للالتفاف حول قيادته إن هي نجحت في تبديد هذا القلق بأي وسيلة كانت، حتى ولو عبر شن هجوم مسلح لتدمير السد أو التنسيق مع السودان لاستعادة أراضيه المحتملة في بني شنقول، والتي أقيم عليها السد. وإذا كان النظام الحاكم في مصر يواجه، في هذه اللحظة، محنة الاختيار، إلا أن أزمة السد الإثيوبي تتيح أمامه فرصة كبرى ليخرج منها كأعظم المنتصرين. فأي مستقبل ينتظر مصر ونظامها الحاكم؟ أظن أن الشهور القليلة المقبلة ستتكفل بالإجابة على هذا السؤال المصيري.