مأساة نازحي الشمال السوري
تُظهر جولة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي فيضاً من الفيديوهات حول مآسي النازحين في الشمال السوري. أطفال، عجّز، شباب، جميعهم يشكون من الجوع والبرد. يعاني هؤلاء منذ نزوحهم من قراهم ومدنهم تباعاً عقب 2011 وتدميرها الواحدة تلو الأخرى.
لا خيم صالحة للعيش، ولا وسائل تدفئة في الشتاء، ولا حتى خبز ولا خدمات صحية ولا مياه للشرب أو صالحة للاستخدام ولا عمل ومساعدات. سماع عبارة "الموت أفضل من هذه الحياة" تتكرّر، بكل ما تحمله من معنى، في غياب أساسيات الحياة.
المأساة ممتدة بلا انقطاع منذ 2011، لكنها تزداد سوءاً بمرور الأعوام. وتبدو هذه السنة الأصعب نظراً إلى تدهور الوضع الاقتصادي، وبشكل أدق انهياره وتراجع حجم المساعدات الدولية والمتغيرات في الملف السوري. يكفي التوقف عند ما أعلنه فريق "منسّقو استجابة سورية" عن عزم برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة تخفيض قيمة السلة الغذائية لنازحي الشمال من 60 دولاراً إلى 40 دولاراً، لتصوّر ما يعنيه هذا من معاناة إضافية ستطاول المستفيدين من هذه المبالغ على محدوديتها. والخطوة التي تتكرّر للمرة الخامسة في شمال غرب سورية يمكن توقّع المزيد منها، سواء من البرنامج أو باقي المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة عبر وكالاتها المتعددة في سورية أخذاً بعين الاعتبار أن العام 2022 انقضى من دون أن تتلقى الأمم المتحدة سوى نحو 42% فقط من الأموال التي تحتاجها لتطبيق خطة الاستجابة المخصّصة لسورية.
الأخطر هذه المرة، توقيت انتهاء تفويض قرار مجلس الأمن 2642 في أوْج فصل الشتاء. ويمكن توقّع الأسوأ في حال لم يمدّد القرار الخاص بإدخال المساعدات عبر الحدود مع تركيا، والذي ينتهي بعد أيام، خصوصاً أن التمديد هذه المرّة يتطلب قراراً جديداً من مجلس الأمن، بعدما نجحت روسيا في تمرير هذا الشرط قبل ستة أشهر. كما أن تبنّي آلية جديدة لتوزيع المساعدات تمرّ عبر مناطق سيطرة النظام السوري ومعابره لن يكون إلا وبالاً على النازحين، لا سيما إذا ما أصبح المتحكّم بمرورها وحجمها، وفرض شروطه في ما يتعلق بتخفيضها مقابل زيادة في "مشاريع الإنعاش المبكّر" التي يريد عبرها الالتفاف وتخفيف العقوبات المفروضة عليه.
يحوّل النظام النازحين في كل مناسبة، إلى بازار للمتاجرة بهم. وهذه المرّة يريد النظام، ومن خلفه روسيا، الخروج بـ"انتصار" جديد من معركة تمديد إدخال المساعدات لاستكمال ما تم البدء فيه قبل ستة أشهر. يرى النظام نفسه حالياً أنه يمتلك الأفضلية، في ظل المتغيّرات السياسية المتلاحقة، بما في ذلك انطلاق مسار التقارب مع تركيا.
نظرياً، لا يجب أن يدفع النازحون السوريون ثمن أي تفاهماتٍ تحدُث بين النظام وأي طرف إقليمي أو دولي، خصوصاً أن الحل السياسي لا يزال بعيداً، مهما بلغ التقارب بين أنقرة ودمشق خلال المرحلة المقبلة، وإن يمكن توقّع أنه لن يسير بخطوات سريعة. أي حلّ مفترض للأزمة السورية لا يمكن أن يتجاوز حقّ السوريين، ومن ضمنهم أكثر من مليونين ونصف المليون نازح في الشمال السوري، في حياة طبيعية حرموا منها أكثر من عقد، اضطرّوا خلاله للعيش في الخيم هرباً من الموت في أقبية سجون النظام أو بالبراميل المتفجّرة والأسلحة الكيميائية التي استخدمها ضدهم.
تدلّ التظاهرات التي خرجت في مناطق الشمال السوري رفضاً للتصالح مع النظام ليس فقط على مطلب أساسي لجزء من الشعب برفض التعايش مع هذا النظام، بل تعبر عن مخاوف قاطني هذه المناطق مما ستحمله الأشهر المقبلة من مساوماتٍ على حسابهم واضطرارهم للتعايش معها في ظلّ محدودية الخيارات المتوفّرة لهم.