ليس الموت واحداً ولا مياه البحار
يستحيل، على أي مستوى، الجمع بين موت الذين يركبون القوارب هربًا من بلاد قتلت كل ما فيهم، بعد أن حكمتهم أنظمة حطّمت كل ما كانوا يصبون إليه، ومن قضوا في قلب الغوّاصة التي كانت تحاول زيارة حطام باخرة "تيتانك" التي حملت في قلب جسدها الصدئ والمهترئ والغارق واحدة من المآسي العظيمة التي انطوى القرن العشرون عليها. من المستحيل الجمع بين الحادثتين، بل من الصعب والظلم التوحيد بين أنواع الموت التي انتشرت داخل طوابق سفينة "تيتانك" نفسها، أو بكلام أوضح، الجمع بين من كانوا يرتادون الأسطح والطوابق العليا في الباخرة، ومن كانوا يرتادون الطوابق السفلى منها، أولئك الذين كانوا أول احتمالات الغرق، وأول من سيتحوّلون إلى طعامٍ للأسماك، حينما اصطدمت الباخرة بالجبل الجليدي الذي أدّى إلى غرقها.
ليست الأمور على هذا النحو من التسطيح عند النظر فيها من مختلف الجوانب، فهناك تعدّد واختلاف في كل شيء، إذ يكاد الكون ينطوي، وبكل تفاصيله ودقائقه، على اختلافٍ من كل حدب وصوب، ليست المجانسة إلا حالة خاصة قلما تسود في أي حدث أو أي مقاربة فيه، وله، وبه. وفي السياق، لا يمكن مقايسة ملوحة مياه البحر الأبيض المتوسط التي ابتلعت عشرات آلاف من أجساد أولئك الهاربين من الامتداد الجنوبي والشرقي للكرة الأرضية نحو الامتداد الشمالي منها، ومقارنتها مع ملوحة مياه الأطلسي الشمالية التي تجمع بين القارّتين الأغنى والأكثر إمكانية وإنصافاً في العيش والتمتّع بأشكال الحياة على حساب أولئك القابعين في دول الجنوب. فمن الظلم مقايسة ملوحة المياه هنا على ملوحة المياه هناك، والأمر ليس من منطلق فيزيائي وكيميائي محض، ولا من منطلق قيمي، بل محض تأكيد الاختلاف والتذكير به، واعتماده في كل تحليل يؤكّد على إمكانية قياس نسبة الأحلام التي اضمحلت وتلاشت في المسطحين المائيين، فهنا تختلف تمامًا نوعية الأحلام، تختلف نوعية الموت وأسبابه وشروطه، عن هناك. لذلك، لا يمكن مقايسة الموتيْن إلى بعضهما انطلاقًا من تماثليّة تجمع بين شيئين لمجرّد أنهما حدثان يتشابهان بالطريقة نفسها، ويؤدّيان إلى النتيجة ذاتها، لكنهما يختلفان بالنيات والغايات والشروط والاحتمالات وكل شيء آخر.
حتى الموت بالنسبة لأهل الجنوب مصدر ومكان للمفاضلة، لربما للحسد، ومصدر أيضًا للحسرة
فكما أنه لا يتشابه إنسانٌ مع آخر بمجرّد الموت والتنفس والأكل والشرب، لا يمكن مقايسة مياه على مياه أخرى لمجرّد مائيتها ووجودها بهذا الشكل السائل والسيّال. فهنا دائمًا يكمن الفرق، وما علينا إلا وضع الحدث في سياق أكثر تعيّنٍ لتتضّح معالمه كافةً. ذلك لأن احتمالات هذه تختلف تمامًا، وفي الحالين، عن احتمالات تلك. هنا احتمالات وتردّد الموت أكبر بكثير من هناك، ونوعيّته أقسى وأشدّ وطأة، ويكاد يكون اختزالًا لأجيال بأكملها واستبعادًا لأنساب وعائلات. هنا الموت مجرّد إجهاز، أمر واقع، تكليل لعملية موت مستمرّة منذ سنوات وسنوات في الحياة، لا بل منذ ما قبل الولادة وتكوّن الإنسان جنينًا في بطن أمه. فالحياة هنا، سواء في رائحتها، أو في تفاصيل زمانها وملامحها، غير الحياة هناك، وليست هذه الغيرية مجرّد اختلاف كميّ كما يحاول بعضهم أن يُظهِر، بل جل الاختلاف كيفي، وصولًا إلى الإشكال الناجم عن تسمية الحالتين بالاسم نفسه. إذ لا يمكن مقايسة من مات يوميًا ليؤمّن حياةً أفضل لأولاده، في كل تفاصيل تلك المفاضلة، من أكبرها إلى أصغرها، مع ذاك الذي طالما عاش في بيئة تحاول إنصافه من خلال تأمين كل ما يمكن أن يكون حلمًا لمن مات في الناحية الثانية من العالم. هنا احتمالات الموت أكبر، وأوسع، وأشدّ فتكًا، وأكثر تردّدًا، وأكثر تماديًا وتغلغلًا، وأوسع انتشارًا وسيادةً في حياة الناس، وفي أحلامهم وطموحاتهم، ولاحقًا أحلام أولادهم وطموحاتهم وتطلعاتهم. هنا نحلم بالذهاب إلى الموت هناك، فحتى الموت بالنسبة لأهل الجنوب مصدر ومكان للمفاضلة، لربما للحسد، ومصدر أيضًا للحسرة. أن تموت بعد الشروع في العيش، بعد غرس الأصابع في تفاصيل ما تسمّى حياةً، على خلاف تام مع الموت والتلاشي بعد الموت المستمرّ والممتدّ في الزمان والمكان، وفي الحياة نفسها، على الرغم من تعدّد أشكالها.
الموت لا يُنظر فيه بالموت، ولا يُبحث فيه بوصفه حدثاً منفصلاً
بكل تسطيح، يحاول بعضهم الجمع بين مأساتين لتشابههما بوجه من الأوجه، وصولًا إلى الجمع بين متر التربة المربّع الذي يُدفن فيه الغني، ومتر التربة المربّع الذي يدفن الفقير فيه، لمجرّد أنه حفرة في الأرض، لمجرّد أنه إعلان انتهاء، ولمجرّد أنه تحلل لشكلٍ من أشكال الحياة أو إنهاء لجميع أشكالها الأرضية التي نعرفها. وهو ما لا يمكن القبول بمروره من دون مساءلة وتمحيص، ومن دون حتى محاكمة. فالموت ليس كالموت، وملوحة البحر ليست كملوحة المحيط، ليس لمجرّد أن الأول إنهاء، وليس لمجرّد أن الثاني يميل بنتيجته إلى هيمنة حالة من صفار لون البواخر الغارقة على كل التفاصيل.
لربما حاولت مقالاتٌ التطرق لهذه المسألة، البحث في هذا الموت، والمقارنة على قاعدة المقايسة بين الموتين، موت الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والليبيين ... إلخ الهاربين من بطش الأنظمة والاحتلال، أو من أزمة البديل، وموت الباحثين في السعي إلى تحقيق رغبة يملكون ثمنها مضاعفاً، بحيث يسمح لهم النظر في أسباب غرق "تيتانيك"، وصولًا إلى القول إنه موت واحد، لكن بأسباب مختلفة. وهنا بيت القصيد، هنا أزمة الأزمات، فالموت لا يُنظر فيه بالموت، ولا يُبحث فيه بوصفه حدثًا منفصلًا، وإلّا استحال موتًا من نوع واحد، موت لا تفاصيل له ولا سياق، موت يحتاج إلى كل الشروط المضمرة التي يحاول بعضهم إخفاءها أو القفز فوقها، موت يخفي تفاصيل الحالة التي يستمرّ فيها مهيمنًا معلنًا سيادته على كل شيء، وبين موت يأتي لحظة ويرحل وتكون هذه اللحظة مجرّد حدث استثنائي في حياة لربما تكون غير استثنائية في إمكاناتها.