ليبيا ورهانات الحل السياسي
مع اقتراب موعد استئناف مسار الحل السياسي في ليبيا، والمزمع عقده في جنيف في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، والمقرّر أن يبحث تسوياتٍ تتعلق بالإنتخابات الرئاسية والبرلمانية، يبدو أنّ الرهان على الحل السياسي لإنهاء الأزمة الليبية في القريب العاجل ما زال خاسراً، لوجود عقباتٍ تحول دون الوصول إلى تفاهماتٍ سياسية نهائية ترضي الأطراف الليبية المتصارعة، وكذلك تنال قبول القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة الليبية. أبرز هذه العقبات اعتراض أطياف ليبية عديدة على المعايير المعتمدة من البعثة الأممية في ليبيا، لاختيار ممثلين عن الأطراف والمكونات والتيارات الليبية المشاركة في مسار جنيف للحل السياسي، خصوصا في ظل الحديث عن مساعٍ أممية لتوسيع لجنة الحوار الخاصة بالمسار السياسي في جنيف، والتي ضمّت سابقاً، حسب التشكيلة التي وضعها مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى ليبيا غسان سلامة، (13 نائباً عن البرلمان الليبي في طبرق، و13 عضواً من المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، و14 عضواً من الشخصيات العامة المؤثرة)، الأمر الذي يطرح إشكالية مهمّة تتعلّق بآلية اختيار ممثلين عن الليبيين، وأعدادهم وتركيبتهم ونسب التمثيل للمناطق والمكونات والأطياف والكيانات السياسية، حيث ما زال هذا الأمر يشهد جدلا واعتراضا كثيرين، في ظل الخوف والخشية من ترسيخ المحاصصة القبلية والجهوية والسياسية، تحت يافطة التعدّدية والديمقراطية التوافقية التي تهدف، في ما تهدف، إلى تقاسم السلطة وإعادة تعويم الأشخاص أنفسهم الذين كان لهم دور واضح في إيصال ليبيا إلى ما وصلت إليه، ولا سيما أن التوافق الليبي الداخلي شكلي، بحيث من المتوقع أن تحمل كل مجموعة ليبية ذاهبة إلى جنيف تصوّراً خاصاً بها عن حل الأزمة، وفق مصلحتها الأيديولوجية أو القبلية أو الجهوية، أو حتى مصلحة الأطراف الخارجية المرتبطة معها.
مساعي بعض القوى الإقليمية والدولية لا تكفي وحدها للتوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ، فالأمر يحتاج لضماناتٍ دولية إلى جانب التوافقات الداخلية
من جهة أخرى، تظهر مشكلة عدم توفر الإجماع الإقليمي والدولي في قضية الحل السياسي للأزمة الليبية، كأحد المعوقات الأساسية، ففي وقتٍ تدفع فيه بعض القوى الإقليمية، وخصوصا الدول المغاربية، وبعض الدول الأوروبية، لإيجاد حل سياسي نهائي للأزمة الليبية، باعتبار أنّ الأوضاع الأمنية السيئة في ليبيا تؤثّر بشكلٍ مباشرٍ على أوضاع هذه الدول بحكم الجوار الجغرافي، تعمل بعض القوى الإقليمية والدولية على محاولة الاستثمار في استمرار الأزمة الليبية، بهدف تحقيق المكاسب من خلال تأجيج الحروب والاصطفافات المناطقية والجهوية والإيديولوجية. هذا عدا عن تعدّد مسارات اللقاءات الليبية، واختلافها في الفترة الأخيرة، من مونترو في سويسرا إلى بوزنيقة في المغرب والقاهرة في مصر وبرلين في ألمانيا ومن ثم باريس وجنيف، والتي ستطيل عمر الأزمة الليبية، بسبب تنافس هذه المسارات، وتضارب مصالح الدول الراعية لها، فمصر على سبيل المثال كانت أحد الأطراف الأساسية في دعم الجنرال خليفة حفتر، فكيف يمكن لدولةٍ تدعم أحد طرفي الصراع أن تكون وسيطا حياديا في الملف الأمني والعسكري الذي يرتبط، في جزء كبير منه، بوضع حفتر والمليشيات المساندة له.
يضاف إلى ذلك كله موضوع التفاهمات الأمنية والعسكرية وشرعية السلاح والمليشيات العسكرية المنتشرة في ليبيا، والذي يعتبر من أهم الملفات التي قد تعرقل الوصول إلى حل سياسي، في ظل ادّعاء كل طرفٍ من طرفي الصراع بشرعية سلاحه، مع استمرار قوى إقليمية ودولية عديدة بإمداد طرفي الصراع بالأسلحة، وخصوصاً من روسيا التي تعمل على تدعيم مواقع مليشيات فاغنر في مراكز حيوية وعسكرية ليبية عديدة، كقاعدة الجفرة، وهي التي أفشلت مع الصين نشر تقرير أممي أعدّته ألمانيا، يفصح عن أسماء الدول التي تنتهك قرار حظر الأسلحة إلى ليبيا.
يبرز دور للمال السياسي والولاءات للخارج كأحد المحرّكات الأساسية في اللقاءات الليبية
وبالتالي، فإن صراع الأجندات الإقليمية والدولية، وتعدّد الحسابات والمسارات وتضاربها، إلى جانب المواضيع الأمنية والعسكرية تعد العوامل الأكثر تشويشاً على جهود التوافق الليبي، باعتبارها تمثّل جزءاً من عبثية المشهد الليبي الراهن، فمساعي بعض القوى الإقليمية والدولية لا تكفي وحدها للتوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ، فالأمر يحتاج لضماناتٍ دولية إلى جانب التوافقات الداخلية.
ويدرك المتتبع للشأن السياسي الليبي أن ما يظهر للعلن من مواقف وسجالات ما هو إلا القليل من "المناكفات السياسية"، والتي أقل ما يمكن القول عنها إنّها "لعبة مصالح" داخلية بامتدادات وارتباطات خارجية، يبرز فيها دور المال السياسي والولاءات للخارج كأحد المحرّكات الأساسية في اللقاءات والحوارات الليبية، من دون إقامة أي اعتبار للمصالح العليا للدولة الليبية، ولا لمعاناة المواطنين الليبيين الذين يعتبرون الخاسر الأكبر في ظل استمرار الأزمة الليبية.
في المحصلة، يمكن القول إنه على الرغم من أن ليبيا مؤهلة اليوم أكثر من أي وقت مضى للسير في مسار الحل السياسي لإنهاء الأزمة الليبية، إلا أن مسارات الحل السياسي الشامل ما زالت متشعبة، وتواجه تحديات وعراقيل عديدة في ظل تعدّد الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الأزمة الليبية، وكذلك غرقها في تفاصيل الصراع المحتدم بين مشاريعها السياسية، فبدون التوافق الوطني المدعوم من القوى السياسية والعسكرية والاجتماعية الحقيقية على الأرض، وبدون الغطاء الإقليمي والدولي، لن تكون هناك إمكانية لحلحلة القضايا الخلافية التي تطفو على السطح منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011.