ليبيا والأقطاب الثلاثة
لم يستطع المشهد الليبي منذ مدّة التخلص من أقطاب ثلاثة متحكمة فيه، البرلمان في الشرق الليبي، والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس، والأجسام التنفيذية المنقسمة، والمقصود هنا بهذه الأقطاب من ناحية الأجسام الرئيسية والسياسية في البلاد، وإلا فإن تكوينات المشهد من الناحية الفعلية والواقعية هي أبعد من هذه الأجسام بكثير.
عموما، تسير جميع هذه الأجسام وفق استقطاب محدّد تتبناه، تختلف تارة وتحاول الاتفاق تارة أخرى، هكذا من غير مقدّمات، ربما تكون المصلحة هي الفيصل والنقطة التي يرتكز عليها الجميع، إلا أن العلامة الفارقة هي البقاء بفعل الواقع، لا بفعل التشريعات ولا القوانين ولا حتى الاتفاقات، غير أنه على النقيض من ذلك هو سكوت الشعب على هذا الفعل، وعدم مقاومته مقاومة حقيقة لتغيير المشهد، ووضع حدٍّ لهذا الاستحواذ على السلطات.
وفي المقابل، تحاول هذه الأقطاب الثلاثة منذ سنوات إعادة تشكيل كثير من الأجسام الرئيسة في الدولة على معايير المحاصصة والجهوية، بل وحتى الأيديولوجية، لتكون النتيجة إما انقساما في هذه الأجسام، وبالتالي، تكون هي والعدم سواء نتيجة الأضداد، أو أن تتماشى مع كل الأطراف السياسية، وتميل مع من تكون معه المصلحة بطريقة أو أخرى. وبالتالي، يكون التقاسم مبنيا على مراكز القوة، ولتكون رهينةً لتقاسماتٍ جهويةٍ سياسيةٍ مبنيةٍ على الولاءات السياسية التي لا تقيم وزنا للمعايير العلمية السليمة في تولي المناصب السيادية في مؤسّسات الدولة.
أجسام فقدت شرعيتها من القاعدة الشعبية المنشئة لها منذ سنوات لا تزال فاعلا في المشهد الليبي
هذه الأجسام التي فقدت شرعيتها من القاعدة الشعبية المنشئة لها منذ سنوات لا تزال فاعلا في المشهد الليبي، وإن قُفز عليها في مرّات عديدة، كان جديدها أخيرا عبر ملتقى الحوار الليبي الذي أطلق عليه اسم ملتقى 75، وكان من نتائجه إنتاج مجلس رئاسي جديد وحكومة الوحدة الوطنية الحالية، وفق خريطة طريق تبنّاها المجتمع الدولي، تنتهي بتجديد هذه الأجسام وفق أطر وتاريخ محدّدين، إلا أن ذلك لم يكن واقعياً لعدة أسباب، لعل أبرزها: عودة ارتكاز الفعل إلى هذه الأجسام، بمعنى أن تكون هي المخوّلة بإنشاء القوانين والتشريعات اللازمة لإزالتها، (هذا هو التعبير الصحيح اليوم في ليبيا). وبالتالي، كان الفشل الذريع في كل المحاولات السابقة. وهنا تطرح عدة تساؤلات على النخب الليبية وكذلك الفاعل الإقليمي والدولي المتداخل في الشأن الليبي بطريقةٍ أو أخرى:
أولاً: "إنشاء حكومة الوحدة الوطنية" كان نتيجة حوار رعته البعثة الأممية في ليبيا بـ75 شخصا من البلاد، (بغض النظر عن الآلية التي اختيروا بها، والفساد الذي كان مصاحبا لهذه العملية والتقارير التي تناولته) إلا أنه استطاع أن ينتج كيانا جديدا وحرّك العجلة السياسية الداخلية في البلاد، الأمر الذي وضع حداً لعبث هذه الأجسام، وأنه بالإمكان القفز عليهم جميعاً، باعتبار أن الشرعية الحقيقية منعدمة عند الكل.
انتظار التوافق من المعدوم دستورا وقانونا هو من العبث الذي تضيع معه الأوطان
ثانياً: لم تستطع هذه الأجسام إنشاء قاعدة دستورية طوال السنوات الماضية. وبالتالي، كان من المنطق أن يتم تجاوزهما بعدّة حلول أخرى، والسير نحو تجديد هذه الأجسام لا انتظارها.
ثالثاً: وهذا هو لبّ القصيد، إذا كنا نتحدّث عن الشرعية الدستورية في البلاد فإننا نتحدث اليوم عن العدم، فالكل مطعونٌ فيه، والكل سيُسقط الكل. وبالتالي، فإن انتظار التوافق من المعدوم دستورا وقانونا هو من العبث الذي تضيع معه الأوطان.
وبالجملة، العامل الدولي إن أراد بجدّية مساعدة ليبيا في تكوين أجسام سياسية جديدة لن يعدم طريقا في ذلك، وما لجنة الـ75 ببعيدة عن ذلك. وبالتالي، الدفع نحو تغيير الواقع السياسي في البلاد بات اليوم ضرورة ملحّة إن لم يكن منذ سنوات، ولن يكون هذا التغيير بالأجسام السياسية الحالية لا توافقاً ولا غلبةً، وإنما سيكون بفعلٍ خارجا عنها، كما كان في أحداثٍ مشابهة، لتكون أمام أمر واقع لا بمحض إرادتها، إما أن تسير فيه وتواكبه، أو أن يُقفز عليها وتكون خارج المشهد برمته، وإلا فإننا سوف ندور في دائرة مغلقة سنوات أخرى، تكون مآلاتها كارثية على البلاد ومقدراتها.