لولوة الخاطر... الدبلوماسية الإنسانية وشكرٌ مستحق
ظلّت وزيرة التعاون الدولي في وزارة الخارجية القطرية لولوة الخاطر تمثّل الدبلوماسية الإنسانية القطرية الفاعلة، وتقوم بدور فاعل ومحوري في البحث عن حلول للأزمة الإنسانية والسياسية المتفاقمة في السودان جرّاء الحرب المدمّرة التي دخلت عامها الثاني وأثّرت في مناحي الحياة كلّها. ما تفعله الخاطر امتدادٌ لدبلوماسية الخير التي تقدّمها قطر قيادةً وشعباً للشعب السوداني، الذي يقابلها بالشكر والتقدير والاعتراف بالجميل، فقد ظلّت قطر مساندةً للسودان في أزماته كلّها، من غير مَنٍّ ولا أذىً.
شهدت الدوحةُ جولاتٍ ماراثونيةً من المفاوضات في 2011 بين حكومة السودان والحركات المسلّحة، توّجت باتفاقية الدوحة لسلام السودان بعد فترة طويلة وشاقّة من التفاوض مع الأطراف كلّها ذات الصلة بالصراع في دارفور، ولم تتوقّف جهود قطر عند توقيع الاتفاق، فامتدّت إلى ما بعد النزاع باستراتيجية النظر إلى الأمام ممثّلةً في تقديم حزمةٍ من البرامج التنموية لإعادة الإعمار وبناء المجتمعات الخدمية في ولايات دارفور، لتسهيل العودة الطوعية للنازحين. ففي الأزمة الراهنة كانت قطر سبّاقةً في الفضل بتداعي الدول لمناقشة أزمة السودان، لتكون الخاطر أوّل الحاضرين منافحةً ومدافعةً عن السودان وقضيته العادلة، موضّحةً أهمّيةَ السودان وأهمّيةَ موقعه الجيوسياسي وتأثيراته الكبيرة في محيطه الإقليمي، موضّحةً في الآن نفسه ارتدادات الأزمة فيه على المنطقة كلّها، خاصّة منطقة القرن الأفريقي التي توليها قطر اهتماماً كبيراً من خلال دبلوماسية الوساطة التي تبذلها في نزاعات المنطقة، ودبلوماسية المساعدات الإنسانية، والملفّ الإنساني الذي نجحت فيه قطر بكلّ جدارة واستحقاق، يُحرّكها ضميرها الإنساني، وإحساسها بمعاناة الشعوب، وتحركّها وشائجُ العروبة والإسلام.
ما فتئت الأزمة السودانية تبرح مكانها، بل توسّعت نطاقاً بفعل التدمير الكامل والممنهج للبنية التحتية للدولة السودانية
وصلاً لتفاعلها وانفعالها بقضية أهلها في السودان، شاركت الوزيرة القديرة لولوة في الاجتماع الوزاري تحت شعار "متّحدون من أجل السودان"، الذي عقد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتّحدة في دورتها التاسعة والسبعين (سبتمبر/ أيلول 2024)، ممثِّلةً قطر، وقدّمت فيه مرافعةً سودانيةً خالصةً، فمثّلت قطر والسودان معاً تمثيلاً مشرّفاً يليق بقيادة قطر وشعبها، فأثلج خطابها صدور السودانيين، وكان لوقع كلماتها بالغ الأثر في التخفيف من حدّة الظلم الذي لحق به من ذوي القربى في محيطه القريب، ومن المجتمع الدولي في بُعدَيه السياسي والإنساني، إذ لم تجد أزمته الاهتمام المأمول من قادة العالم وشعوبه.
وقفت لولوة الخاطر أمام الجمع الدولي، وذكّرته بجلسته في العام الماضي، في الزمان والمكان نفسيهما، بالأزمة الإنسانية ذاتها في السودان، قائلةً إنّ الأمل كان يحدو الجميع بأنّ الاجتماع المقبل سيكون لصياغة الخطط ووضع استراتيجيات إعادة البناء والإعمار والتنمية والترميم للحجر والبشر. وللأسف، استدار الزمان ودار دورته والأزمة السودانية ما فتئت تبرح مكانها، بل ازدادت تعقيداً وتوسّعت نطاقاً بفعل التدمير الكامل والممنهج للبنية التحتية للدولة السودانية، ولم تسلم موروثات السودان الثقافية والتاريخية، فنُهِبت ثرواته وآثاره بغرض محو ذاكرته الحضارية والتاريخية.
شكر مُستحَقّ للوزيرة، وهي تناشد المجتمع الدولي أن يضع السودان ضمن الأجندة الدولية، وفي مكانه الصحيح، فهل "أسمعتِ إذ ناديتِ حيّاً"؟ ... يعتري الوهن والضعف المجتمع الدولي، ويعاني اختطاف القرار وازدواجية المعايير ويحتاج (عبر جهد متواصل وسعي حثيث)، إلى أن يستعيد معاييره الأخلاقية وأنساقه القيمية الضابطة، وإلى أن يعود الضمير والأخلاق إلى الممارسات السياسية ذات الطابع الدولي. وكما ذكّر المُفكّر طه عبد الرحمن أنّ الأخلاق أوْلى بالإنسان من العقل، فليس أقلّ من أن توضع في قمّة المعايير على مستوى الممارسة قبل الخطاب. لقد باتت سمة المجتمع الدولي الرئيسة الراهنة الكيل بمكيالين، وإرسال الوعود الخلّابة والخاوية في آن، حتّى تنادت النُخَب والدول وأهل الاختصاص والنظر بضرورة إصلاح المنظومة الدولية على نحو عاجل، وإجراء مراجعاتٍ شاملة لقوانينه الدولية وتشريعاته المختلفة وآليات تنفيذ مقرّراته والتزاماته، فلم يزل الوصف الشهير أنّ الشرعة الدولية تكتسي أوضاعاً نشأت بالقوّة تجسّد الواقع في أعلى تبدّياته، لا يمكن أن توضع القوانين ليتم إنزالها بضعاف الدول والمجتمعات ممّن توصف وفق العقلية الاستشراقية بما يدعوها المُفكّر الألماني ديتر سينغهاس "دول التغاير الهيكلي"، الواقع مجملها في جنوب العالم، وتحتاج أن يتعهّدها الغرب بالتحديث والتطوير، وبممارسة أقصى درجات الرفق بها ضمن عملية طويلة ومخاض عسير.
يحتاج ترميم الحجر الذي أشارت إليه الوزيرة لولوة دعماً ومساندةً على مستوى الخطط والأفكار والتمويل، ومن دونها لا يمكن إنجاز حدود معقولة من التنمية والتعمير، فإعادة البنى والهياكل إلى ما كانت عليه، واستعادة الخدمات، وترميم الطرق، واسترداد الإمداد الكهربائي الشحيح، واستعادة تدفق المياه، فضلاً عن تفعيل المرافق الصحّية والتعليمية، يستوجب الوفاء بالالتزامات المالية التي قطعتها الدول على نفسها في مؤتمرات باريس وغيرها، وهي مبالغ مقدَّرة إذا ما تم الإيفاء بها، وإلّا صدق فيها وصف أبي الطيّب المُتنبّي "أنا الغني وأموالي المواعيد".
تبدّلت أحوال النازحين واللاجئين من أبناء السودان، الذين أُفقروا على مستوى الأموال والأصول وأدوات الإنتاج، وأُفرغوا على مستوى المعنى والذاكرة وقيم المواطنة... إنّ تبدّل أحوالهم قمينٌ بتحويل سراب الوعود التي يحسبها الظمآن ماءً حقائقَ تُرى بالعين المُجرَّدة، وبرامجَ فعّالةً تثمر وتغني من جوع. أمّا ترميم البشر، الذي ورد في خطاب الوزيرة الخاطر، القوي والفصيح في آن، فيمتدّ ليشمل فعلاً سودانياً خالصاً بتكوين عقد اجتماعي يجمع فسيفساء الشعب السوداني على أسس جديدة، تتراضى فيه على قيم مشتركة، وعلى منطلقات تأسيس تقوم على تقديم تنازلات من الجميع تتبلور في مشروع وطني يُؤسّس لدولة المستقبل، التي تتساوى فيها الحقوق والواجبات بين المواطنين كافّة، فهذا الترميم في جانبه الأكبر يتحمّله الشعب السوداني.
أسعد خطابُ الوزيرة لولوة الخاطر المرأةَ السودانية، إذ خصّتها بذكرٍ وافرٍ وهي تضع برفق أصابعها على مكامن الألم
لقد أسعد خطابُ الوزيرة المرأةَ السودانية، إذ خصّتها بذكرٍ وافرٍ وهي تضع برفق أصابعها على مكامن الألم، فتداعين على مستوى الميديا يبثثن ثناءً واجباً في مقام الشكر المُستحَقّ، إذ ما لا يقوم الواجب إلّا به فهو واجب، فأودعن عبر السفراء رسائلَ مودَّة وتقدير وإعزاز من مراكز الإيواء إلى مواطن النزوح، إلى مواطن اللجوء القسري على امتداد العالم، وهن يتمثلن قول الفنّان السوداني الشهير: "لا هذي ولا تلك، والدنيا بأجمعها تسوي مقرن النيلين في الخرطوم يا سمراء". لقد كانت سعادةُ السودانيين قاطبةً بالغةً بخطاب الوزيرة لولوة الخاطر، بيد أنّ المرأة كانت أكثر الناس تأثّراً وانفعالاً، إذ يقع عليها فعل الضيم بنحو مضاعف، لأنّها منذورةٌ لتلقّي المواجع والفواجع على مستوى الفقد. فقد فقدت بالفعل (وما زالت) الأب والابن والزوج والأخ، ما زالت تفقد النصير والمعين، وتتعرّض للتهجير القسري من بيئتها (بيتها ومملكتها)، ولكلّ أنواع الذلّ والإهانة والتشنيع، وتشاطر الرجل همومَه وشواغلَه وبحثه المضني عن ذاته المسلوبة بفعل الحرب. لذلك كلّه، وجدت كلمات الوزيرة التي تفيض صدقاً وقعاً خاصّاً في نفوس السودانيات، واستدعت أن يرتجل أحدُ الشعراء المُجيدين قصيدةً تسيل رقّةً وعذوبةً. لقد غنّى من قبل الفنان عبد الكريم الكابلي في مقام الاحتفاء بنضال الجزائر "أغلى من لؤلؤة بضّة صيدت من شطّ البحرين"، إذ لم يعد الخليج يهب اللؤلؤ والمحار والردى، كما في وَصْف بدر شاكر السيّاب في أنشودة المطر، إلّا إذا كان لؤلؤاً من طراز لولوة الخاطر، وهي تصل إلى أعماق السودانيين والسودانيات بدفء الحديث ودفق المشاعر، فتسعدهم حالاً ونطقاً، إذ كاد الوصف الذي غنّاه الكابلي بصوته الشجي أن ينصرف إلى مقام الوزيرة لولوة، بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا سيّما أنّ النضال بات يتّخذ أشكالاً مختلفةً وأدواتٍ ناعمةً.
وفي المُختَتَم، نرسل إلى مقام لولوة الخاطر، التي نالت استحقاق اسمها، دلالةَ وصفةَ شُكرٍ ممدود غير محدودٍ، وثناءً موصولاً غير مجذوذٍ، ويداً سابغةً وفضلاً مُستحَقّاً.