لن يطول الانتظار
الاضطرابات التي تشهدها بلادنا العربية بين حين وآخر مجرّد علامات على وجود مشكلة. هي عرَض أو تحذير من وجود المرض، كالحمّى. أما المرض الحقيقي، فهو أخطر بكثير مما يبدو عليه الأمر.
النظام السياسي العربي عموماً لا يعبأ كثيراً بما يدور في الشارع، لأنه يعرف أن شرعيته لا يستمدّها من هذا الشارع، بل في الوسع القول إن الحاكم العربي لا يحسب حساب هذا الشارع، وربما لا يملك القدرة على رؤية ما يجري فيه، لأنه لا يعنيه كثيراً، وربما لا يريد أن يراه أصلاً، لأن اعتماده الرئيس على دعم "الخارج" أولاً، واعتماد سياسة البسطار لا الحوار في إخماد أي "تمرّد" أو تململ شعبي. وحتى حينما يحصل تحرّك شعبي هنا أو هناك، لا يلجأ هذا النظام لعلاجه جذرياً، بل يُلجأ إلى حلولٍ ترقيعية، ومسكّنات موضعية، وتجري لفلفة الجروح من دون تنظيفها. لهذا تبقى أصول المشكلة تتفاعل تحت السطح انتظاراً لخروجها في لحظة ساخنة أخرى، جرّاء تفاقم ما يعانيه الشارع من قراراتٍ حكومية، أو زيادة معاناة الناس على الحد المحتمل.
من أسهل الأمور للخطاب العربي الرسمي أن يحمّل مسؤولية أي تحرّك شعبي لأعداء وهميين، تارة يسمّيهم "غوغاء"، وتارة "متطرّفين" أو "تكفيريين" أو مندسّين فوضويين، أو محرّضين، أو قل ما تشاء من قوالب جاهزة، لإخراج أي تحرّك شعبي من "الشرعية" القانونية، تمهيداً لسحقه باسم القانون. والحقيقة أن المتطرّف الحقيقي في هذه المعادلة هو القرارات الحكومية أو منظومة الإدارة العامة بكل إرثها، المبنيّة على أسس تصنع قنابل موقوتة في الحياة العامة، وتقوم على وجود طبقة حكم قليلة العدد تستمتع بحياة الرفاهية ورغد العيش، مقابل طبقة شعبٍ مستلبٍ تقريباً من كل حقوقه أو جلّها، يجتهد طوال يومه في تحصيل ما يسدّ رمقه، حتى إذا مسّه طائف من جوع، أنَّ وتوجّع وعبّر بطريقة ما، وحينها تجري محاصرة هذا الأنين الذي قد يتخذ شكلاً عنيفاً أحياناً، بحلٍّ سريع مؤقت، معظمه مستمدٌّ من سيناريوهات مكتوبة مسبقاً، تعتمد أسلوب امتصاص الغضب، أو إخماده بالقوة والتخويف والإرعاب، وإبقاء المشكلة الأساسية في منأى عن الحل.
أي فترة "هدوء" يعيشها المواطن العربي هي بمثابة "هدنة" مؤقتة، مرشّحة لأن تنتهي في أي لحظة ساخنة
أخطر ما يحصل في هذا المشهد بالمجمل، حين تسيل قطرة دم، حيث تتّخذ هذه "الجملة المعترضة" ذريعة لتجييش كل ما يقع تحت يدي السلطة ضد أي مشاعر أو مطالب شعبية محقّة، تحت بند حفظ الأمن، وهو مصطلح فضفاض مخيفٌ مروّع، فباسم الحفاظ على الأمن يستلب حق المواطن في الأمن، والتعبير، والحياة الكريمة، وأي حقوق مشروعة.
أي فترة "هدوء" يعيشها المواطن العربي هي بمثابة "هدنة" مؤقتة، مرشّحة لأن تنتهي في أي لحظة ساخنة، لكون النظام العربي في المجمل لا يستند إلى أسس ثابتة ومنطقية في الحكم، بقدر ما هو يتحرّك بقوة فرض الأمر الواقع، وتتنوّع أنواع هذه "القوة" بين تجويع ممنهج أو رفاهية مرسومة، حسب قدرة هذا النظام أو ذاك وملاءته المالية. ففي البلاد الفقيرة تتم السيطرة على الشارع بإبقائه في منزلةٍ متوسّطة بين الموت جوعاً والشبع النسبي، فلا هو مكتفٍ ولا هو ميت جوعاً، وتلك معادلة "ذكية" إلى حدٍّ مفجع، تُبقي الشارع في حالة لهاث، غير واعٍ للمطالبة بحقوقه الأساسية في الحياة، لأنه مشغولٌ بالركض وراء رغيف الخبز، وحينما تختلّ هذه المعادلة، ولو قليلاً، يسارع صاحب القرار إلى زيادة حصة الجوع أو الشبع، حسب "تقدير الموقف".
أما في البلاد "الغنية"، فيُلجأ إلى "الرفاهية" النسبية لإلهاء الشارع عن حقوقه الأساسية، كحقه في المشاركة بالحكم، وانتخاب من يحكمه، ومساءلته، حيث تصبح مثل هذه الحقوق الأساسية في شرعة حقوق الإنسان، رجساً من عمل الشيطان، ومخالفة للشرع والعرف والتقاليد.
كان الإعلام "الرسمي" في ما مضى هو المصدر الوحيد للتوجيه والإخبار، وصناعة الوعي الجمعي
وفي المجمل، العصا والجزرة هما الأداتان المفضّلتان لمن يسوس الشارع العربي، من مشرقه إلى مغربه، وحتى حينما "ينجح" صقعٌ من أصقاع العرب بالإفلات من سطوة هذه السياسة، ولو بقدر قليل، يتحرّك "الأشقاء" كلهم لوأد أي تجربة "ديمقراطية" تتمرّد على التقاليد العربية الأصيلة في الدكتاتورية، لأن هذا النجاح بمثابة مرضٍ معدٍ يمكن أن يمتد إلى بقية الأصقاع. لهذا يجب التخلص منه بكل الطرق، بغضّ النظر عن انسجام هذه الطرق مع اتفاقيات جنيف ومواثيق حقوق الإنسان، وبقية النصوص الدولية التي لا ينتفض واضعوها للدفاع عنها إلا حينما يشعرون بتهديد حقيقي لمصالحهم في بلاد الجنوب.
ما لم يدركه أصحاب القرار في بلاد العرب بعد، (أو ربما لا يريدون أن يدركوه)، أن هذه المعادلة التي حكمت بلاد العرب في العقد الماضي بطوله وعرضه، هي في طريقها إلى التفكّك والتحلل، فالدنيا تغيرت كثيراً، فالعالم فعلاً أصبح قرية صغيرة، واحتكار السلطة صنبورَ المعلومات انتهى، ما ولّد وعياً شعبياً عاماً بالحقوق والواجبات. فقد كان الإعلام "الرسمي" في ما مضى هو المصدر الوحيد للتوجيه والإخبار، وصناعة الوعي الجمعي، أما اليوم فقد انفجرت المعرفة، وسالت في الطرقات، ولم يعد ممكناً السيطرة على هذا الوعي بجملة بيانات أو "مراسيم" حكومية، وأعتقد أنه، مع مرور زمنٍ ليس بالكثير، لن يكون بإمكان أي سلطة عربية إخضاع الشارع، لا بعصا ولا بجزرة، ولا بمنظومة قمع أبوية، لا بتجويع ولا بترفيه، نحن ننتظر التغيير الشامل الكبير، ولن يطول الانتظار.