لماذا يُطبّعون مع إسرائيل؟
ينطبق على الساسة العرب قول الله تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون". وقد اتجهت معظم التفاسير إلى أن المقصودين بالآية الكريمة ليسوا من يقرضون الشعر حصراً، وإنما بالأساس من يحسنون القول ويسحرون آذان الناس بلحن الكلام. وليس جديراً بهذا الوصف أكثر من الساسة العرب، فهم بحقّ يقولون في العلن ما لا يفعلون، ويفعلون في السرّ ما لا يقولون. ويخدعون شعوبهم بخطاباتٍ مخاتلةٍ وكلماتٍ ناعمةٍ وشعاراتٍ رنّانة، فيما يرتكبون أعمالاً تناقض ذلك كله.
يجسّد الموقف العربي من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية مثالاً نموذجياً كاشفاً لهذه الغواية العربية، فحتى أعوام قليلة مضت، كان معظم الدول العربية يرفض فكرة إقامة علاقات مع الكيان الإسرائيلي، أو حتى قبول الاعتراف بها دولة. ورغم أن الرفض كان مبدئياً في الماضي، لانتفاء أي أساسٍ قانونيٍّ أو أخلاقيٍّ لتلك الدولة المفتعلة، إلا أن منطلق الرفض تطوّر مع الوقت، لينحصر في الاستيلاء على الأراضي العربية، وانتهاك حقوق الفلسطينيين وكرامتهم. ومن هنا، تبلورت مداخل براغماتية لتفكيك الصراع وتحويله من صراع الوجود إلى تنازع الحدود. ويكمن في تلك الفجوة بين المنطقين سرّ التنازلات العربية المتتالية، حيث لا سند متماسكاً، ولا مرجعية واحدة ثابتة لمعاداة ذاك الكيان عربياً. لذا، يدفعنا توالي وقوف الدول العربية تباعاً في طابور التطبيع إلى تساؤل منطقي: ما هي دوافع تلك الدول للتطبيع؟ ماذا ستكسب من ورائه؟ وماذا ستخسر من دونه؟
الإجابة في تحديد هوية وكينونة ما (أو من) يقيم علاقات مع إسرائيل. فليست "الدول" التي ترفض شعوبها التطبيع، وإنما هي النظم الحاكمة الجاثمة على أنفاس الشعوب، والتي تعتبر أن المواطنين هم فقط سكان يعيشون في تلك الدول، لكنهم لا يملكونها، وليست لهم كلمة فيها ولا عليها. وبذلك، يمكن فهم كذب الساسة والحكّام على شعوبهم في رفض التطبيع مع إسرائيل، وفيما تسود الغالبية المسلمة من الشعوب العربية كراهية تلقائية لليهود، أعداء الدين عبر التاريخ. لا مشكلة على الإطلاق عند أولئك الساسة والحكام، لا مع اليهود ولا مع الصهاينة ودولتهم المختلقة. ولهذا التسامح أو بالأدقّ اللامبالاة تفسير بسيط ومباشر، وهو أن أياً من هؤلاء المتسلّطين على شعوبهم لا أثر عنده لتعاليم الدين ولا نخوة لديه تحرّكه لمواجهة ما تتعرّض له المقدّسات والممتلكات في الأراضي المحتلة، ولا يستشعر أي حرمةٍ للحرائر أو قيمة لأرواح الشيوخ والأطفال الذين يُقتلون بدم بارد منذ ثلاثة أرباع القرن.
لذا، ما يجرى كشفه من حين إلى آخر ليس سوى "إعلان كاشف" لجزءٍ يسير مما تتضمّنه علاقاتٌ قائمة بالفعل بين إسرائيل ودول عربية منذ أعوام بل عقود. هذا بخلاف عوامل أخرى، منها دور واشنطن التي تدعم إسرائيل بلا شروط. أما العامل الأهم والمحدّد الرئيس في هذا الانبطاح أمام تل أبيب، فهو الأوضاع الداخلية وملابسات وصول معظم الحكام العرب إلى السلطة، فضلاً عما يخفيه أغلبهم من فضائح وأسرار تُجبرهم على الانصياع لأطماع إسرائيل وأوامر واشنطن. وهذه العوامل أو نقاط الضعف الذاتية قاسم مشترك بين تلك الدول، التي بدأت تعلن التطبيع مع الكيان في العامين الأخيرين بصفة خاصة، فوفقاً لمنطق المصالح الوطنية، وبعيداً عن المبادئ، لا مكاسب حقيقية يمكن تحصيلها من أي علاقة مع كيانٍ مُختلقٍ وعصابة لها دولة. وفي الوقت نفسه، عدا المواجهة المسلحة التي لم تعد متوقّعة، لا كلفة أو أعباء على أي دولة أو نظام يتمسّك بمقاطعة ذلك الكيان، ليس إلا غضب واشنطن وربيبتها، وبالتالي، المعاقبة بفضح الخطايا وانكشاف الأسرار.