لماذا يمزج أميركيون الدين بالسياسة؟
في بداية هذه الألفية، كانت مسألة العلاقة بين الدولة والدين العقبة الأهم إبّان المفاوضات المضنية، بين الحكومة السودانية آنذاك والحركة الشعبية لتحرير السودان، الجنوبية المتمرّدة. كانت القيادة الجنوبية ترى أنها تتحدّث باسم إقليم تغلب على أهله المسيحية والعقائد الطوطمية، لذلك كان تلوين الدولة باللون الإسلامي بالنسبة لها غير مقبول. في المقابل، كان المفاوض الحكومي يرى أن الثقافة الإسلامية هي الغالبة في السودان. وبهذا، فإن سيادتها أمر طبيعي، خصوصاً إذا ما جرى الاتفاق على احترام الثقافات الأخرى، بل مضى الأمر إلى حد التنازل والموافقة على حكم إقليمي يكون فيه للجنوب الحقّ في اختيار قوانينه وطريقة الحكم التي يراها مناسبة.
لم تبدأ عقدة علاقة الدولة بالدين، كما يحب بعضهم أن يرى، مع حكم الرئيس عمر البشير، وإنما كانت موجودة منذ اندلاع أول شرارة للحرب قبل الاستقلال. كانت تلك الشرارة أول ردّ فعل جنوبي رافض لانحياز النخبة السياسية للهوية الإسلامية والانتماء العربي. استمرّت جذوة الحرب الهوياتية مشتعلة نحو نصف قرن. ظهر بعض الرؤساء السودانيين بشكل أكثر تشدّداً، كالرئيس إبراهيم عبود الذي سعى إلى أسلمة قسرية للإقليم الجنوبي، ردّاً على محاولات البريطانيين عزله وتنصيره.
لم يكتف المفاوض الجنوبي بأن يأخذ حكم الجنوب مع المشاركة في حكم الشمال، ولكنه مضى إلى المطالبة بأن تكون العاصمة محايدة دينياً. في النقاشات العامة، كان كثيراً ما يضرب المثل بافتتاح محلات بيع الكحول وتناولها، دليلاً على هذا الحياد الحكومي المطلوب والحرية التي يجب أن تكفل لجميع المواطنين. كان من الصعب القبول بهذا المطلب، ليس فقط لأنه يهزم الخطاب "الإسلامي"، الذي كانت الحكومة تتبنّاه، ولكن لأنه كان سيصطدم برفض شعبي جارف.
لا تفسّر المصالح الانحياز والرعاية الأميركية للمشروع الصهيوني واحتمال ما تجده من كراهية وسخط من عالم إسلامي واسع نتيجة التواطؤ والتستر على جرائمه
نجم التشدّد الجنوبي من جهة عن رغبة الداعمين الخارجيين، وفي المقدّمة الولايات المتحدة، في تعقيد الأمر، وصولاً إلى طرح خيار الانفصال، كما نجم، من جهة أخرى، عن فهم شائع يضع العلمانية في مقابل الدين، ويعتبر أن تحقيقها يكمن في إخراج الدين من الحياة العامة.
هناك قصة طريفة تروى في المجالس السودانية تقول إن أحد مفاوضي الحكومة استنكر دعم الوساطة الأميركية وحماسها القوي لموقف الجنوبيين الرافض وجود أي رمز إسلامي. أخرج ذلك المفاوض ورقة نقدية أميركية وأشار بها قائلاً: ولكن، حتى في الدولة الأميركية ذات الديمقراطية والعلمانية الراسخة، أنتم لا تُقصون الدين كافة، حتى أنكم تكتبون عبارة متديّنة، "نحن نثق بالله" على عملة الدولار!
الشواهد كثيرة على ارتباط السياسة الأميركية بالعقيدة الدينية. ليس فقط على مستوى استخدام عبارات مثل: "نحن نثق بالله"، و"حفظ الله أميركا"، ولكن حتى على مستوى العلاقات الخارجية. ليس أدلّ على ذلك من العلاقة الأميركية الإسرائيلية، التي لا يمكن للمصالح المادية وحدها أن تفسّرها. لا تفسّر هذه المصالح الانحياز والرعاية الأميركية للمشروع الصهيوني واحتمال ما تجده من كراهية وسخط من عالم إسلامي واسع نتيجة التواطؤ والتستر على جرائمه.
العقيدة الدينية موجودة كذلك في كتب السياسيين ورجال الدولة الأميركيين ومذكّراتهم، فمذكرات مادلين أولبرايت ومثلها مذكرات كونداليزا رايس مليئة بالشواهد الدينية، أما الرؤساء وغيرهم من الشخصيات المهمة واضعة السياسات، فيكاد بعضهم يقول إنه إنما كان يتقرب إلى الله بما كان يفعله، بل يصعب أن يقرأ المرء كتاباً لأحد الفاعلين الأميركيين من دون أن يجد في كلماته مزجاً بين العقيدة والسياسة. شاهد آخر هو الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي اعتمد، بشكل أساس، على استغلال العاطفة الدينية من أجل اجتذاب الجمهور، وهو ما نجح فعلاً، حيث اعتمد، بشكل أساس، على أصوات المتدينين، الذين رأوا أنه، وإن لم يكُن متديّناً في نفسه، إلا أن احترامه المسيحية أمر يجعل التصويت له واجباً. ولم يكن هذا الارتباط الوثيق بين الدين والسياسة يعجب الجميع، حيث رفض كثيرون أن يدفعوا ثمن ما يعتبرون أنه مجرّد خرافات مرتبطة بضرورة الولاء لـ"إسرائيل" أو بانتظار معركة "هرمجدون" الفاصلة أو غيرها من العقائد، التي لا يفارق صداها أذهان المتحكّمين في المشهد السياسي الأميركي.
الرؤساء وغيرهم من الشخصيات المهمة واضعة السياسات، يكاد بعضهم يقول إنه إنما كان يتقرب إلى الله بما كان يفعله
في الرابع من يوليو/ تموز عام 1976، تجمّع أكثر من 25 ألف شخص في أحد الحقول في ولاية فيرجينيا الأميركية للاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لإعلان الاستقلال. حينها ألقى منظّم الحفل، الواعظ التلفزيوني جيري فالويل، خطبة قال فيها إن هدف الآباء المؤسّسين من بناء هذه الدولة كان إنشاء أمة مسيحية، وأن "فكرة أن الدين والسياسة لا يختلطان اخترعها الشيطان لمنع المسيحيين من إدارة بلادهم". وفي كتابه، الذي صدر قبل أسابيع، "المملكة والسلطة والمجد"، يعلق الصحافي تيم إلبرتا على الحادثة مستغرباً تحوّل ذكرى إعلان الاستقلال من مناسبة للتذكير بقيم الديمقراطية والحريات، وخصوصا الحريات الدينية، الى دعوة لمحاربة التعدّدية والعلمانية.
تقدّم خطبة فالويل وحديثه عما يعتبرها "الغالبية الأخلاقية" مثالاً لما أطلق عليه ألبرتا "الراديكالية البروتستانتية"، والتي ترتبط، كما يشرح من خلال الكتاب، بلوبيات وجماعات ضغط مؤثرة يرى أن دورها كان محورياً في تحقيق فوز الرئيس ترامب. تضم الأغلبية، التي تستحق وحدها أن تحكم، والتي يتحدّث عنها الواعظ فالويل، متديّنين وسياسيين يمينيين وجماهير تابعة للحزب الجمهوري. ألبرتا، المتديّن، لكن الرافض تسييس الدين واستغلاله من النخبة القومية المسيحية، يخلص إلى أن الامتزاج بين السياسة والدين، وخصوصاً الإنجيليّة، في الحالة الأميركية لا يمكن إنكاره. يرى ألبرتا أن هذا المزج يتناقض مع كلمات المسيح، الذي قال إن مملكته ليست في هذا العالم، كما يرى أن هذا التمادي في الاستغلال سيؤدّي إلى تسميم السياسة والكنيسة الإنجيلية، التي بدأت تعاني بالفعل من نقص المؤمنين.