لماذا يعادي النظام المصري منظمات حقوق الإنسان؟

11 ديسمبر 2020
+ الخط -

لعبت المنظمات الحقوقية دوراً مهما في فضح الانتهاكات التي كان يرتكبها في مصر نظام حسني مبارك قبل الانتفاضة الثورية في العام 2011، ولعل ذلك الدور المهم لتلك المنظمات كان أحد الأسباب التي أدت إلى تلك الانتفاضة الثورية التي خلعت مبارك بعد ثلاثين عاما من حكم مصر.

وتعاني المعارضة المصرية من أزمات خمس تاريخية: أزمة التنظيم، إذ لم يكن لديها تجربة تكوين تنظيم خارج إطار الدولة، والتجارب الثلاث الوحيدة خارج إطار الدولة هي جماعة الإخوان المسلمين والكنيسة القبطية والنادي الأهلي عند التأسيس لمقاومة الاحتلال البريطاني. تأتي بعد ذلك أزمات مثل التمويل، المشروع السياسي، أزمة الخطاب، ثم أزمة القيادة. إلا أن منظمات حقوق الإنسان استطاعت أن تتجاوز تلك الأزمات الخمس، الخاصة بالمعارضة المصرية، فهي تضرب مثالا على التنظيم الجيد خارج إطار الدولة، كما أنها تمتلك التمويل الذي تحتاجه لإكمال عملها الذي تهدف إلى تحقيقه، وفي مجمله يقوم على توثيق الانتهاكات التي يمارسها النظام. إلى جانب أن تلك المنظمات تمتلك مشروعا واضح المعالم، وهو ما ترجم نفسه في مبادئ حقوق الإنسان، إلي جانب الخطاب الحقوقي الذي أصبح واضحا ومتبلورا في مواجهة الخطاب القمعي للسلطة. إذا، مشروع تلك المنظمات حقوقي وليس سياسيا، فما هي الأسباب التي تجعل النظام المصري يلقي القبض على الحقوقيين، ويوجه اتهامات لهم قد تصل إلى حد الانضمام إلى جماعات إرهابية. 

تتمتع المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان بعلاقة قوية مع الحكومات الغربية والأميركية

أولا: تتمتع المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان بعلاقة قوية مع الحكومات الغربية والأميركية. وبالتالي، لديها القدرة على التأثير في تلك الحكومات، فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، وممارسة ضغوط علي النظام المصري. وقد مثلت تلك العلاقات القوية مع الحكومات الغربية والأميركية، ولازالت تمثل، تهديدا للنظام المصري الذي اعتاد احتكار العلاقات الدبلوماسية مع القوى الغربية والأميركان، ولا يريد أن تكون هناك أطراف أخرى تدخل على خط هذه العلاقة، أو تكون طرفا ثالثا فيها. بمعنى آخر، إنه لا يريد أن يكون للمجتمع المدني أي سلطة أو علاقات خارج الإطار الذي يحدّده النظام. 

ثانيا: لدى هذه المنظمات تنظيم قوي حقيقي وتنسيق بينها، وبين بعضها بعضا في الداخل والخارج، وتفضح ممارسات النظام وانتهاكاته لحقوق الإنسان في الداخل والخارج، وهذا مزعج للنظام. وطبيعة نظام يوليو أنه يجارب التنظيمات السياسية، فهي تمثل خطرا حقيقيا عليه، ولعل هذا يفسّر لماذا حلّ الضباط الأحرار التنظيمات السياسية، مثل الأحزاب، وعمد إلى تعطيل الحياة السياسية بعد استيلائهم على السلطة في 1952، وهو النهج نفسه، الذي انتهجه عبد الفتاح السيسي، حيث حل الأحزاب واعتقل عددا من رؤسائها. يدرك نظام السيسي، بوصفه امتدادا لنظام يوليو (1952) أن وجود تنظيماتٍ يمثل خطرا عليه، وعلى بقائه في السلطة، فالتنظيم يعني القدرة على امتلاك الأعضاء، والعمل المنظم، وبالتالي القدرة على المنافسة السياسية. وعلى الرغم من امتلاكها تنظيما، فإن المنظمات الحقوقية لا تقوم بالمنافسة السياسية، ولكن الخطر الذي يراه النظام فيها أن تتمكن من إيجاد حركة مستقبلية تتبنّى التنظيم، أو تنشر ثقافة التنظيم بين القوى الشبابية أو السياسية، وهذا أحد أسباب محاربة النظام جماعة الإخوان المسلمين بأنهم تنظيم، وبالتالي هذا تهديد مباشر للنظام. ولعل هذا أيضا يفسر لنا لماذا لم ينتم الرئيس المصري الحالي إلى أي حزب سياسي، فالحزب يعني ممارسة السياسة والتنظيم، وهو ما لا يفهمه الرئيس الحالي، ولا يرغب في وجوده. 

مع انتخاب بايدن، بدأ خطاب حقوق الإنسان يعود على أجندة الرئيس الأميركي مجددا، وهو ما يسبب قلقا عميقا لتلك الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط

ثالثا: يتعلق السبب الثالث بالتمويلات التي تتلقاها تلك المنظمات، والتي تكون وزارة التضامن الاجتماعي طرفا فيها، فهي تسبّب إزعاجا للنظام، وهو غير قادر علي وضع يده على هذه الأموال، كما اعتاد الاستيلاء على المال السائل للمصريين، فمنع تلك التحويلات، واستولى عليها، وفي فترة رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، اختفى خطاب حقوق الإنسان من أجندته. ولعل هذا ما جعل الأنظمة القمعية ترتكب القتل والسجن في حق المعارضين، تحت مرأى ومسمع من العالم، وتحت غطاء سياسي منحه لهم ترامب. 

الآن ومع انتخاب بايدن، بدأ خطاب حقوق الإنسان يعود على أجندة الرئيس الأميركي مجددا، وهو ما يسبب قلقا عميقا لتلك الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار، وفي مناخ التفاؤل الذي صاحبه، اجتمع أعضاء في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مع سفراء أوروبيين، وهو ما ترجمه النظام المصري إلى نوع من التحدّي له، والاحتماء بالقوى الغربية، فاعتقل على الفور مسؤولين ناشطين في المبادرة، وقد أراد بذلك إيصال عدة رسائل: إلى الإدارة الأميركية الجديدة وحلفائها الغربيين، إنهم لن يكونوا قادرين على ممارسة أي ضغوط على النظام في ظل الإدارة الجديدة لبايدن. إلى الداخل المصري، إن الحكومات الغربية لن تكون قادرة علي حمايتهم من النظام، وأنه سيمارس كل أشكال القمع التي تحلو له في حقهم. 

يحب النظام المصري، ككل الأنظمة القمعية، الظلام وعدم الشفافية، والهروب من المساءلة

توالت الإدانات الغربية لهذا الاعتقالات، وخصوصا من دولٍ حضر سفراؤها هذا الاجتماع، مثل فرنسا التي أصدرت بيانا شديد اللهجة تندّد فيه بهذه الاعتقالات، ثم ظهر نجوم في "هوليوود" رافضين هذه الحملة. وبعد ذلك، رضخ النظام لهذه الضغوط الدولية، وأفرج عن الذين اعتقلهم، وجاء هذا قبيل زيارة الرئيس المصري لفرنسا للقاء نطيره الفرنسي ماكرون. وقد أكد الإفراج عن الثلاثة المدافعين عن حقوق الإنسان أن من الممكن الضغط على نظام السيسي وإرغامه على الانصياع للإدانات الدولية. وفي ما حدث فرصتان يجب استغلالهما وتسليط الضوء عليهما: أن القضايا التي يعتقل النظام الناس على أساسها لا أساس لها من الصحة وهي قضايا ملفقة. أن حملات التضامن قد تؤتي ثمارها، وبالتالي من الممكن الاستثمار فيها. 

يحب النظام المصري، ككل الأنظمة القمعية، الظلام وعدم الشفافية، والهروب من المساءلة، بينما تكشف المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان عن الانتهاكات التي يمارسها، وتجلو الظلام عنها، وتهدف إلى الشفافية والمساءلة القانونية. ولذا يستهدف النظام هذه المنظمات بغرض إسكاتها والاستمرار في قمعه، فهل سيكون النظام قادرا على الصمود طويلا في تطبيق هذا النهج، أم أن الوضع السياسي قد يتغير في أي لحظة، ونشهد خروجا جديدا للمصريين إلى الشارع، ردّا على انتهاكات النظام المستمرّة.

BA733789-23B4-4A69-9D4A-CB7E100A9A4B
تقادم الخطيب

أكاديمي، باحث مصري في جامعة برلين، مشارك في الحراك السياسي المصري منذ 2006؛ ومسؤول ملف الاتصال السياسي في الجمعية الوطنية للتغيير سابقاً.