لماذا لم يمت سعيد عقل؟

14 اغسطس 2014

تخطيط لسعيد عقل

+ الخط -

لم يمت سعيد عقل. هو، الآنَ، يقاربُ الثانية بعد المائة، فقد ولد في 4/7/1912. الطريف أن (GOOGLE) يحتفظ بخبر نُشر في صحيفة، العامَ الفائت، يتحدث عن احتمال أن يكون قد مات، وهو في عمر 101 سنة، ويَنْسُبُه إلى مصادر غير مؤكدة.
واضح أن الخبر غير دقيق، فلو أن سعيد عقل مات، هل يُعْقَلُ، أو هل يجوزُ، أن تمر وفاتُه ولا ندري بها؟ ولو يا عمي، (هَيْدَا) سعيد عقل!
حينما كان الشاعر محمد علي شمس الدين، تلميذ سعيد عقل، يحتفل بمائوية أستاذه كتب: لا نقول إن سعيد عقل بلغ اليوم المائة. نقول فقط "وُلد"، ولا نؤرخ له بسوى ولادته. مائة، مئتان، ألف، ألفان... الدهر كله ميدان هذا الفارس.
لا يموت سعيد عقل بسهولة، فهو الذي أجاب، لمّا سئل عن رأيه بمالئ الدنيا المتنبي بعبارة (لهُ أبيات!)، ومحمود درويش، كذلك (لهُ أبيات!)، وهو الذي دقَّ بيده، مرة، على منضدة الصف، وإذا بالورد يطلُّ على الشباك!.  
يمكن أن يتكسر سعيد تَكَسُّرَاً، لأنه من معدن نفيس، أو لأنه مُسْتَنْبَتٌ من الزنبق: شلحُ زنبقٍ أنا.. اكسرني على ثرى بلادي.
لو قلتَ إن سعيد عقل هو شاعر الإبداع، لما وُفقتَ في وصفه. لقد عُرِفَ باسم "شاعر التَبَادُع"، والتبادُعُ مفهوم جدلي متحرك يؤثر، ويتأثر، ويستمر، ويتصاعد بلا حدود، وبلا هوادة.
أتى سعيد عقل بنحت بعض أسماء البنات، يارا، ورندلى.. ولعله أول من اجترح بلاغة الـ، التعريف التي تنوب على اسم الموصول "التي"، إنْ مَعَ الجملة الاسمية: يارا الـ (جدايلها شقر)...، أو مع الجملة الفعلية: يارا الـ (غفي ع زندها خَيَّا الزغير).
يرى الباحث محمد شاويش في دراسة في العدد الرابع من مجلة أوراق، صيف 2014، أن التوصيف "شعر شعبي" كثيراً ما يُستعمل لوصف أي شعرٍ يُكتب بالعامية، وهذا خطأ، فكثيرٌ من الشعر الذي يُكتب بالعاميات العربية لا ينتمي إلى "الثقافة الشعبية". ومن ثم، فإن ما كتبه سعيد عقل، أو ميشال طراد أو الأخوان رحباني أو نجيب سرور، لا يمكن وصفه بأنه "شعر شعبي"، لمجرد أنه كُتب بالعامية.
يمكننا، والحال هذه، أن نصف قصيدة "مشوار" التي "بادَعَها" سعيد عقل، وصدحتْ بها فيروز على مسرح معرض دمشق الدولي سنة 1960 بأنها شديدة النخبوية... فالبنت المغنية تحكي عن رجل التقتْهُ الفتاةُ/ وهي ذاهبة إلى مدرستها، وكانت السماء تمطر، فوقفت لـ"تُرَنِّخَ" فستانها، أي لتنفض عنه "الترنيخ"، أي الرذاذ، ثم تناقش الموقف مع ذاتها فتقول: وقالوا شَلَحْ لي ورد ع تختي- وشباكنا بيعلاه-  شو عرفو أياه تختي أنا، وأياه تخت أختي؟
يؤسفني، بالفعل، أنني لم ألتقِ سعيد عقل في حياتي، لو أني عرفتُه لبادرتُه بالسؤال: شو قصتك مع (الشَدّ) يا عمي سعيد؟
ففي أغنية مشوار (1960) تقول المغنية: وقالوا غمرني مرتين وشَدّ- مرة منيح. اتنين؟- لا ردتو إيدي ولا هو ارتدّ.
وفي أغنية بحبك ما بعرف (1961)، تقول له، بخفر: بحبك ما بعرف حب- لا تشدني بإيدي...
كان سعيد عقل يهوى دراسة الرياضيات والهندسة، ويريد أن يكون عالماً، ولكن والده أفلسَ، وهو يلقي محاضرات في كيف يكون (الكَرَم) على أصوله! فانتقل إلى ميدان الشعر. وحسناً فعلَ والدُه. فلو أن سعيد عقل أصبح عالماً مَنْذَا الذي يستطيع، في غيابه، أن يضع كل هذه البلاغة في شطر واحد هو (شامُ يا ذا السيفُ لم يغبِ)؟
قال المفسرون: شامُ، هنا، أصلها يا شامُ، والشاعر اختصر أداة النداء (يا)، تمشياً مع قاعدة (البلاغةُ الإيجاز). وأما حرف (يا) الذي يأتي بعد كلمة (شامُ) فهو ليس للنداء، وإنما للتعجُّب! وعنصر البلاغة الثالث يكمن في جملة (لم يغبِ)، وفيها التفات مفاجئ إلى الماضي.
سعيد عقل عاشق الجملة الاعتراضية الذي يتفنن في استخدامها، فيقول:
من روابينا القمر
جاءه، أم لا، خبر؟
وهو عاشق ظرف الزمان الذي يسبق الجملةَ الاسمية، على نحو مبهر، فيقول: حينَ عيناها بساطُ السماء، والرماحُ السودُ في الهدبِ.
وهو سعيد عقل الشجاع الذي أنثَ "الزمان"، فجعله "زمانة"، ولا شك أنه أول من وصف البنت "الحلوة" بأنها "الحلواية". 
سعيد عقل الذي يبعثُ الكلامَ المقامَ الرفيعَ الحضاريَّ الذي يستحقه، فيقول للشام:
يا كلامَ المجد في الكتبِ
ويقول واثقاً من نفسه وعبقريته إلى حد الغرور:
أنا حسبي أنني من جبلٍ
هو بين الله والأرض كلامْ! 
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...