لماذا استمر "أبراهام"؟
قبل عام ونيف، وتحديداً في سبتمبر/ أيلول 2020، احتضنت حديقة البيت الأبيض في واشنطن حفل التوقيع على ما سميت "اتفاقات أبراهام" التي فتحت أبواب التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، ورسّخت واقعاً عربياً جديداً بخصوص التعاطي مع إسرائيل، على الأقل بالنسبة لعدد غير قليل من الدول العربية، إذا ما أضفنا إليها الدول التي سبق أن أبرمت اتفاقات "سلام" مع الاحتلال.
حينها، كانت الظروف السياسية العالمية، وخصوصا التسلط الأميركي الذي مثّله الرئيس السابق، دونالد ترامب، ممهدة لمثل هذه الخطوة العربية، لا سيما مع الضغط الذي مثّله الأخير لفرض قبول إسرائيل في المنطقة، باعتبارها جزءاً أساسياً من التحالف الذي أراد ترامب تشكيله لمواجهة إيران، وهو ما يتماشى مع رغبات بعض الدول العربية، وبالتالي حفّز سيرها على خطى ترامب.
لكن الأشهر التالية أوجدت معطياتٍ جديدة في هذا المجال، ونسفت أغراض التطبيع التي جعلتها بعض الدول العربية مبرّراً للانفتاح على إسرائيل. فلم يمضِ كثير من الوقت بعد التوقيع على "اتفاقات أبراهام" حتى أطاحت الانتخابات الرئاسية الأميركية أحلام الحكم الأبدي التي كانت تراود ترامب، ومن ثَم فإن الضغط الذي كان يمثله الأخير للدفع باتجاه التطبيع مع إسرائيل لم يعد موجوداً. لكنّ ذلك لم يمنع دولا عربية من المضي في هذا المسار وتطويره على أعلى المستويات، ما يعني أن ترامب لم يكن إلا ذريعةً لتحقيق هذا التقارب مع الكيان الإسرائيلي تحت شعار "تحقيق السلام" في المنطقة.
كذلك الأمر مع هدف مواجهة إيران، وتشكيل جبهة للحد من "خطورتها"، إذ انتفى بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة وانتهاجه سياسةً مختلفةً كلياً في التعاطي مع إيران. فها هي مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي أبطله ترامب تسير على قدم وساق في فيينا، وتحقق تقدّماً في مجال العودة إلى تفاصيل الاتفاق ورفع بعض العقوبات عن طهران، الأمر الذي يبدو أن بعض الدول العربية التي سارت في مسار التطبيع مع إسرائيل، وخصوصا الإمارات، بدأت تتقبله بشكل أو بآخر، وهو ما تجلّى في الانفتاح على طهران الذي قامت به أبوظبي خلال الأيام الماضية، في مواكبةٍ لتطورات مفاوضات الملف النووي. وفي الوقت نفسه، لم يلجم هذا الانفتاح التقارب الكبير بين الإمارات وإسرائيل، والذي تكرّس أخيراً في الاتفاقات التي أبرمها رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، خلال زيارته التاريخية إلى الإمارات مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي. ما يعني أيضاً أن أهداف مواجهة إيران ليست أساسية في التطبيع الإماراتي مع إسرائيل. لكن لا شك في وجود تقاطع مصالح بين الطرفين في ما يخص الملف الإيراني، ولا سيما النووي، غير أنه يبدو أن أبوظبي تتعاطى ببراغماتية أكثر مع هذا الملف، وهو ما يجعلها تترك الباب موارباً في العلاقة مع الجار الإيراني.
وإذا نحّينا السلوكين، الإماراتي والبحريني، جانباً في ما يخصّ العلاقة مع إسرائيل، فإن الطرفين الآخرين اللذين انضما إلى اتفاق أبراهام لاحقاً، أي السودان والمغرب، لم يجنيا الكثير، فكل الذرائع التي سيقت لتبرير هذا الانضمام اندثرت مع التطورات السياسية اللاحقة، وهي نفسها التي تم ذكرها آنفاً، والمرتبطة خصوصاً بتغيير النهج الأميركي. فالسودان الذي كان يمنّي النفس برفع العقوبات الأميركية عنه لم يحصل على مراده، وتحديداً مع تمادي العسكر في التسلط والانقلاب الذي نفّذوه على الحكم المدني، والذي لم تنتهِ مفاعيله بعد. أمّا المغرب الذي حظي من ترامب باعتراف بالسيادة على الصحراء، فلم يستفد من ذلك مع الإدارة اللاحقة التي بدأت تراجع ما أعلنه الرئيس السابق.
ما سبق ذكره لم يمنع هذه الدول من المضي في اتفاقات "أبراهام" والمحافظة عليها وتطويرها، والإبقاء على هذه الاتفاقات حيةً لتكون نهجاً جديداً لبعض الدول العربية، غير مرتبطٍ لا بالضغوط الأميركية ولا بالمصالح المباشرة المتأتية عن التزام هذه الاتفاقات. هي قراراتٌ "سياديةٌ" تطبيعيةٌ معزولةٌ عن أي مؤثّرات خارجية.