للنّاجيات سلام

30 نوفمبر 2021
+ الخط -

"ما معنى النّجاة؟ هل ينجو من تعرّض للاغتصاب مرّات؟" تسألُ الشّاعرة الجزائرية سعاد العبيز، في حواراتٍ عديدة تحكي فيها تجربتها مع الاغتصاب المتعدّد. تضيف "من يتعرّض للاغتصاب يحمل معه في كل مكان المغتصب". على الرغم من صعوبة الحديث عن الموضوع، هي تكابر وتحكي. وقبلها كتبت تجاربها المؤلمة باللُّغتين العربية والفرنسية، في كتابها "تخطّي البِركَة حيث ينعكس الجحيم" الذي تحكي فيه كيف تمّ اغتصابها في طفولتها. وكيف أوقفت الأم هذا وحمّلتها المسؤولية، فلو لم تخرج، لما حدث ما حدث. وحملت سعاد الجرح وحيدةً، إلى أن وضعته في كتابها، وهي حاليا في الخمسينيات. وما زالت تجد صعوبة في الحديث عن الموضوع، لكنّها تتجاوز، بهمّة عجيبة، ذلك الألم، وتحكي عنه باستمرار. كأنّها في الحديث عنه تستلُّه خيطاً خيطاً من داخلها. السلطة التقديرية للقاضي، التي تعفي المجرم من العقوبة إذا تنازلت الضحايا.
مثيلاتُ سعاد كثيرات، ممن وقعن ضحّية الاغتصاب، وتم إخراسهن، وتحميلهنّ المسؤولية، بل قتلهن بناء على ذلك. من السّعودية إلى الأردن إلى فلسطين، من اغتصاب الأخ وتنكيل العمّ. وقتل المغتصبة، وتزويجها من المغتصب. هناك سلسلةٌ لامتناهية من العنف الجنسي والجسدي، والذي يحرم المرأة من كرامتها، وحرّية جسدها، وحقّها في الحياة والتّنقل والتعليم .. كلّ شيء يتوقّف عندما يتمُّ تعنيف المرأة. هناك نساءٌ توقّفن عن الخروج من البيت بسبب التحرّش، ومنهن من ارتدت النقاب لتفادي ملاحقة الرّجال لها في الشارع. وقليلون من الرّجال هم الذين يستمعون لحكايات النّساء عن العنف، ويصدّقون الرُّعب الذي يعشن فيه.

كل مغتصبٍ قنبلة موقوتة، قد يعاود جريمته في أي وقت إذا نجا من العقاب. بل حتى لو دخل السّجن فسيخرج ليغتصب مرّة أخرى

جبهة أخرى للعنف الجنسي تتمثل في الأُسر التي تتصالح مع المجرم وأسرته، بتلقّي مبلغ من المال تعويضا عن الضرر. يحضرني هنا نموذج واحد من بين كثير، إكرام الطفلة المغربية التي اغتُصبت، وتخلّى الأب عن حقوقها مقابل المال. وخرج المجرم إلى الشّوارع ليفعلها مرة أخرى، بلا شك. وبينما تضيع حياة إكرام، ذهب المال إلى الأسرة التي لن تكلّف نفسها حتى بعلاجها النّفسي، من الآثار المُدمّرة للجريمة. وستعيش وهي فاقدة الثقة في الأسرة التي باعت حقّها، وفي القانون الذي سمح بشيءٍ كهذا. أين المجتمع السليم الذي لا تُسارع فيه عائلات المُغتصِبين، والمُنتهِكين أجساد النساء وخصوصيتهن، إلى حمايتهم وإخراجهم من السّجن الذي يستحقونه؟ 
كل مغتصبٍ قنبلة موقوتة، قد يعاود جريمته في أي وقت إذا نجا من العقاب. بل حتى لو دخل السّجن فسيخرج ليغتصب مرّة أخرى، إذا كانت مدّة محكوميّته بسيطة. وربما يُعيد اغتصاب ضحيته، ويقتلها. وهذا ما حدث مع شيماء الجزائرية، التي خرج مغتصبها بعد أربع سنوات من السّجن، وهي مدة قصيرة جدا، ليختطفها ويغتصبها، ويقتلها ويحرق جثتها. تخيّل شخصا كهذا داخل كلّ مغتصب، فمن يتجرّأ على انتهاك جسد امرأة، أو جسد طفل، فقد يفعل كل شيء من دون أن يرفّ له جفن. وبالتالي، المُدد السّجنية الطويلة قد تمنعه من تكرار جريمته؛ بحيث يبقى طويلا خلف القضبان، بما يكفي لينسى هوايته الوحشية، ويكون قد تقدّم في العمر، بحيث لن يقدر على تكرار فعلته.

تحميل الضحية المسؤولية يصل إلى الأطفال والطفلات، حيث لا تقلّ ردود الفعل عن جرائم الاغتصاب فداحة

لكن بدل هذا لدينا الإفلات من العقاب، وحماية المجرم، بل وتحميل المسؤولية للضحية. مرّة نزل شخص يقدم نفسه مستشارا نفسيا في إحدى الإذاعات الخاصة، بثقله الذكوري على مستمعة قالت إن خطيبها أخذها إلى شقته، ليُريها إياها، واغتصبها هناك. هنا، بدلا من التخفيف عن الضّحية وإرشادها إلى طرق الخروج من الأزمة، نزل "المُستشار" قرعًا ولومًا عليها: ماذا كنت تعتقدين؟ لماذا ذهبتِ معه؟ كنت تعرفين ما الذي قد يحدُث وذهبت معه مع ذلك. أنت الملامة، وأنت المسؤولة، ما كان يجب أن توافقيه. وبدلًا من أن يمنح المرأة المسكينة سبيلًا للنّجاة مما حدث، حمّلها الذنب. وإذا ما انتحرت هذه السيدة بعد هذا، لن يحاسبه أحدٌ على ذلك. فهو يمثل المجتمع الذي يجلد الضّحية، بدل أن يعاقب المجرم الذي سيرتبط بأخرى، وينجب الأولاد ويعيش حياته كأنّ لا شيء حدث. وفي الواقع، شخص كهذا، واسمه مؤمن الدريبي، يقدّم نفسه خبيرا اجتماعيا، على الرغم من أنه ليس مكوّنا في ذلك. إضافة إلى رعونته.
تحميل الضحية المسؤولية يصل إلى الأطفال والطفلات، حيث لا تقلّ ردود الفعل عن هذه الجرائم فداحة، من قبيل أن يقول بعضهم إن الطفل الضحية قاوم الاغتصاب، ولم يستسلم حسب اعترافات المجرم. كما حدث في قصة عدنان، الطفل المغربي الذي قتله المجرم بعد اغتصابه. عدا عن فعل المقاومة تُذكر تفاصيل غريبة مثل هتك العرض الذي يعني أنّه لم يحدُث افتضاض للبكارة، أو أن الضّحية ذكر. من جهة أخرى، يُذكر افتضاض البكارة تهمةً إضافية، بمعنى أنه إذا لم تكن هناك بكارة لافتضاضها، فهذا يعني أنّ الاغتصاب أقلّ ضررًا. وبالتالي، هناك فرق بين حُكم هتك العرض وحكم افتضاض البكارة. ليسأل أحدهم ضحيّة اغتصاب عن أثرها عليه، طفلا، أو طفلة أو امرأة، وليرى هذا التّفصيل، هل هو مصيري مثلما يقولون؟ أو أنّ الاغتصاب جريمة بشعة في حق الضحية، بغض النظر عن التفاصيل "التقنية" تستوجب الأحكام القصوى مهما كانت تفاصيلها؟

المرأة نفسها في حدّ ذاتها كأنثى، بغض النّظر عن باقي الاعتبارات مستهدفة، إلى أن يتغيّر النّظام المهزوز في المجتمعات، والمائل بشدّة لصالح الذكورية

كلّ ما حولنا يُعنّف المرأة بشكلٍ من الأشكال، وكلما كانت المرأة على قدر أكبر من الوعي بإنسانيتها، ازداد شعورها بثقل العنف عليها أو حولها. صحيحٌ أنّ بعض النّساء يقبلن العنف ويمارسنه، ولا يمانعن العيش تحت ثقله، لكن معظمهنّ تُجبرهنّ الظّروف على التحمّل حتى آخر نفَس. حتى لو حاول القانون حماية المرأة، فالمجتمع لا يفعل، ولا يحفظ كرامتها. والدّليل أن قانون العنف ضد المرأة في المغرب لم يُغيّر من نسب العنف والتحرّش ضدها، بعد سنواتٍ من سنّه. فما بالك به وهو غير مُنصف؟ والدّليل تلك الأحكام التي تصدُر بحقّ المغتصبين الذين يخرجون بعد سنتين أو ثلاث ليعيدوا الكرة. 
كل امرأة تعتبر ناجية من العنف. مهما كان العنف، كلّ امرأة تعرضّت له، بشكل أو بآخر، ليس العنف العام الذي يتعرّض له الجميع. بل العُنف المبني على الجنس. يُعنّفن لأنّهن نساء، نفسيا وجنسيا واقتصاديا. إذا لم يكن في الشّارع ففي العمل، وإذا لم يكن ففي البيت.. تعدّدت الأمكنة والعنف واحد، والمرأة نفسها في حدّ ذاتها كأنثى، بغض النّظر عن باقي الاعتبارات مستهدفة، إلى أن يتغيّر النّظام المهزوز في المجتمعات، والمائل بشدّة لصالح الذكورية.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج