لكم عهد ترامب ولنا عهد التميمي
هؤلاء الذين يثير غضبهم العارم شعار أي قناة قطرية، لا تستفزهم أبدا الحروف العبرية على حقيبة صهيوني يتسلل إلى المسجد النبوي في المدينة المنورة بتأشيرة سعودية.
منهم، أيضاً، من ينظرون باشمئناط إلى صورة المقاوِمة الجسورة، الصغيرة عهد التميمي، فلا يجدون فيها سوى أنها سافرة ومكشوفة الشعر.
منطقي جداً أن الذين وجدوا ضالتهم في عهد ترامب لا يتحمّسون كثيراً لعهد التميمي، بشعرها المكشوف، الذي هو أطهر ألف مرة من شعر لحية ألف شيخ وقسيس ممن يمارسون نخاسة النصوص والفتاوى تحت قدمي حاكم متصهين.
ولمناسبة تجارة الفتاوى، تتسرّب، في زحمة الغضب من أجل القدس، مجدّداً، دعوات للسفر إلى الأرض المحتلة، بذريعة أن ذلك يدعم عروبة القدس، ويصدّ عنها هجمات التهويد والأسرلة.
ما الذي تغيّر حتى تعود مرة أخرى تلك النغمة التي تحاول فتح ممرّات تطبيعية، لا يريدها أهل القدس أنفسهم؟
القدس لا تزال محتلة، بل يتفاقم احتلالها، ومن ثم تبقى الأسباب الوجيهة لعدم زيارتها وهي تحت الاحتلال قائمة، وهي أسباب قتلت بحثاً وتمحيصاً في المجامع الفقهية والدوائر السياسية، وكلها انتهت إلى أن زيارة القدس بتأشيرات صهيونية، وبرغبة سلطات الاحتلال وتحت إشرافها، هي سقوط في شرك التطبيع المجاني.
في مصر، لا تزال المقولة الخالدة للبطريرك السابق، الأنبا شنودة، محل اعتبار وتقدير كل المعنيين بموضوع مقاومة الاحتلال ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، إذ صمد البطريرك في وجه أعاصير الابتزاز باسم الدين، لكي يمنح موافقته على حج المسيحيين إلى كنيسة القيامة.
في شتاء العام 2001، وفي لقاء مع جمهور معرض القاهرة الدولي للكتاب، جدّد الأنبا شنودة موقفه المعروف، حين قال"زيارتي للقدس الآن في ظل احتلال إسرائيل لها لا فائدة من ورائها وبلا أي نتيجة، بالإضافة إلى أن اسرائيل ستقول لنا وقتها لكم الزيارة ولنا الريادة، وستؤدي زيارتنا للقدس الآن إلى رواج اقتصادي لليهود، علاوة على أن الإعلام اليهودي سوف يظهر هذه الزيارة كما يريد".
وأضاف بلهجة قاطعة" لن أدخل القدس إلا بتأشيرة فلسطينية على جواز سفري، ومع صديقي شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي وإخوتي العرب، ولن يكون هذا إلا بعد أن يزول الاحتلال عن القدس، ويصبح المسجد الأقصى تحت سيطرة السلطة الفلسطينية".
جاء هذا الموقف العربي الناصع متسقاً مع مواقف أربعة من شيوخ الأزهر على مدى أربعين عاماً، ابتداء بالدكتور عبد الحليم محمود، الذي رفض مرافقة السادات في زيارته إلى القدس المحتلة 1977 مروراً بالإمام الأكبر الدكتور جاد الحق علي جاد الحق، الذي رفض الانحناء أمام عواصف "أوسلو"، معلنا أن من يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم.. والأوْلى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلى القدس، حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود، وتعود إلى أهلها مطمئنة يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلى الصلوات، وعلى كل مسلم أن يعمل بكل جهده من أجل تحرير القدس ومسجدها الأسير.
ثم جاء شيخ الأزهر، محمد سيد طنطاوي، وعلى الرغم من تساهله في مقابلة حاخامات صهاينة بمكتبه، إلا أنه لم يجرؤ على الخروج عن مواقف سابقيه، مؤكداً أنه يرفض زيارة القدس وهى مكبلة بسلاسل قوات الاحتلال الاسرائيلية، لأن زيارة أي مسلم لها في الوقت الراهن يُعد اعترافاً بمشروعية الاحتلال الإسرائيلى، وتكريساً لسلطته الغاشمة"
وأخيراً، شيخ الأزهر الحالي، الدكتور أحمد الطيب، الذي يتبنّى الموقف ذاته من أن زيارة القدس لا تحقق مصلحة للمسلمين، لأنها في ظل احتلال إسرائيلي، وبإذن من سلطات الاحتلال".
في مقابل هذا الثبات، يأتي الاختراق من جهة "عرب اعتدال"، أو قل "عرب ترامب وإيفانكا"، باستخدام حجج شديدة التهافت والضحالة، من عينة ما ساقه الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي في 2015، إياد مدني، ثم الباحث السعودي أنور عشقي، وليس انتهاء بزيارة وفد موسع بمعروفة الحكومة البحرينية، في ذروة اشتعال الغضب العربي ضد قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.
تنبئنا الوقائع على الأرض أن هذه الزيارات التطبيعية المجانية لم تلجم الاندفاع الأميركي الصهيوني نحو تهويد القدس، بل حدث العكس، إذ تسارعت الوتيرة، واتسعت الشهية الإسرائيلية لابتلاع المدينة القدسة، وسط تواطؤ رسمي عربي مفضوح، يعبر عنه وزير الخارجية البحريني بقوله إن قرار ترامب موضوع جانبي وهامشي، لا ينبغي أن يشغلهم عن القضايا الأساسية، التي هي بالطبع تسخين العداء ضد قطر، وخوض المعارك التاريخية الكبرى ضد كل ميكروفون يحمل شعار محطات التلفزة القطرية.