لروح زاهر الغافري
صعلوك طيّب تركته قبيلة غفار في حوافّ الحضر من دون أن تعلّمه فضيلة الادخار. يلهث هكذا في حوافّ الحضر طائراً جميلاً خجولاً من دون أن تكون له حساباتٌ مُعقَّدةٌ مع الحضر، ولا مع بقيّة مواريثٍ في غفار. فرّ من وهج الصحراء صبياً كي يقترب من المعرفة من دون أن يملأ قدوره بها، وإذا به يترك قدورَ المعرفة كاملةً، ويتنقل من مكان إلى مكان متعشّماً من غير أطماع في الشعر، كي ينسى حكايات القبائل وانتصاراتها وغزواتها، ويستظلّ بالحيرة فقط، وهو من أهل الحيرة عن جدارة ومن صبابتها، إلّا أنّ بعض السعادات كانت تأتيه مرغمةً من دون أن يتعلم حرص الحضر أو شباكهم أو حيلهم، ومن دون أن يتذكّر لؤم القبيلة وتدابيرها في العيش أو الهجوم.
في الجلسة، يجلس زاهر دائماً في الحافّة، معيشته دائماً، وفي خفّة وابتسام وحيرة غير مصنوعة؛ في الرحيل لا يحلم بعودة ولا يُخطّط لها، وفي العيش يسكن الحافّة، ما الذي جعله هكذا يبدو للرائي وكأنّه تعيس، رغم عدم ممارسته لتلك العلامات التي يدّعيها بعضهم، حتّى في لحظات الصفو وبافتعالٍ ممجوجٍ، وفي الوقت نفسه تراه سعيداً؟ كيف جمع زاهر النقيضَين من دون أن يفتعل؛ في الاستقرار تناوشه سعادة العودة، وفي العودة يناوشه الرحيل؟
هائم بلا أسلحةٍ، ولا يحمل معه حتّى الكتب، حتّى كتبه هو، حتّى قصائده رغم قلّتها وخفّتها. حتّى محبته للسينما أكلتها الحيرة وظلّت مقولاتٍ، أو مبثوثةً في قصائده وكأنّه يجافي محبّته عامداً، يتجاهل اهتماماته زاهداً من دون أن يكون كذلك، علّه الهروب من ثقل المعرفة ومسؤوليتها التي لا يتحمّلها. حكيم هندي يمارس التجوال من دون أن يمارس الحكمة في خطواته، بل يظلّ هكذا ظلّاً يبحث عن سعادة ما هناك.. هناك أو وراء ظهره، وفور أن يلمس السعادة تبدأ الحيرة أو الإحساس بالتعب والرغبة في الغياب، من دون أن تفارقه الابتسامة؛ فماذا أخذ زاهر من غفار وماذا أعطته؟
خرج زاهر أبيضَ اليد وطيّب القلب، سريرته معه ودمعه الذي أخفاه معه، فقط صيحات الشعر التي أطلقها من ضلوعه ولم يكن يتباهى بها أبداً، ولا طلب من ورائها الثناء أو المجد، ولا اغترف لبعرانه الشعيرَ، ولا جلب لأحصنته قوالبَ السكّر، يجلس فقط في حافّة العالم، هكذا.. في حيرة أو يكلّم البحر متنقّلاً من حال إلى حال.
ما الذي أضافه زاهر الغافري؟ ... هو لم يُخطّط لذلك، ولا يريد ذلك، ولم يعمل لهذا طيلة عمره، الذي كاد أن يقترب من السبعين إلّا قليلاً، لم تكن لزاهر حسابات، فقط أضاف روحه إلى العالم، روح زاهر، فصارت أجملَ في عين الرائي، وأرقَّ وخفيفةً وطيّبةً، ومشى خفيفاً إلى حيث يريد أن يكون سعيداً، فنال الخفَّةَ والسعادةَ معاً، ولم يُضايق أيَّ أحدٍ على مائدة، أيّ مائدة، ولم يتكالب لبعرانه على زكائب الشعير، وكأنّه لم يأخذ من غفار أيَّ شيء سوى اللقب.
زاهر عبارة عن ضيف خفيف، أو مركب خفيف هناك في البحر، لا يُعاند الريح ولا يحلم بتجارة في الهند أو في الصين. حلَّ خفيفاً الرجل، ورحلَ خفيفاً بلا طمع وبلا حروب؛ لم يترك "عدّةً" كبيرة تبرّر وجوده أو كمَّ الصيد الذي اصطاده من أعالي البحار، أو من شواطئ عُمان.
زاهر، في سريرة نفسه، يتباهى بروحه فقط، وببقيّة الأشياء البسيطة فقط التي تربطه بتلك السعادات، التي كانت تأتيه مرغمة كحظوظ الطيور غير الجارحة. هو من صنّاع الفرح، حتّى إن كان فارغ الجيوب، هو يحتال على الفرح كي يصنعه ليلاً وبمهارةٍ وخفَّةٍ كساحر. والغريب أنّ الفرح كان يأتيه ساجداً في أيّ ليل، فتحسّ أنّه ليس ذلك البحّار الفقير الذي لا يمتلك الزاد على سطح مركبه الصغير أبداً، بل هو يمتلك ما في البحر كلّه، المهمّ أن يبتسم ويحشو غليونه ويُكلِّم البحر، والغريب أنّ البحر كان يجود عليه في أيّ وقت.
هذه السعادات البسيطة كلّفته الحيرةَ، وبعضَ العذابِ أيضاً، الذي كان زاهر يخفيه بمهارة، فيطيل النظر لفقرة في كتاب ما في نظّاراته أو يتأمل سحابةً هناك أو يحكي ببساطة عن فيلم تبعثرت منه مشاهده، أو صاحب ما، يظلّ هكذا في حيرة حتّى تنقله الغمامة إلى بلد ما.