لذّة التطبيع .. السم مشروبًا مفضلًا
بدأت رياضة التزلّج على جليد التطبيع مع الكيان الصهيوني قبل أكثر من أربعين عامًا، لكن الجليد بقي جليدًا، كما أن التطبيع بقي مجرّد مصطلح متداول في وسائل الإعلام، حيث يستخدم عادًة في التراشق والتنابز بين العواصم العربية، لانتزاع صفة الأكثر ولاء للقضية.
الآن صار الجليد جمرًا مشتعلًا، وبات التطبيع رقصةً ساخنة، وفعلًا فاضحًا في الطريق العام.
منذ بدأها أنور السادات، كان العرب الرسميون يطبّعون بخجل، بل كان التعبير الأكثر رواجًا، كلما سقطت حكومة في فخ التطبيع، هو "نتجرّع السم من أجل فلسطين".
في الحفل الافتتاحي للتطبيع، الذي كان بطله أنور السادات، استقال ثلاثة وزراء خارجية مصريون، قرفًا من هذا المسار، واستشعارًا للعار الذي يلحق بهم، إن استمروا في نظام الحكم الذي اختار أن يتجرّد من كل ما يستره من تاريخ، ويتمدّد على شواطئ التطبيع مع العدو.
تُنبئنا الذاكرة بأنه قبل زيارة السادات إلى الكيان الصهيوني بيومين أعلن وزير الخارجية المصري، في ذلك الوقت نوفمبر/ تشرين ثان 1977، إسماعيل فهمي، الاستقالة من منصبه، بعدما رفض مرافقة السادات في زيارته تل أبيب.
بعد ذلك مباشرًة، أعلن التلفزيون المصري قرار السادات تعيين السفير محمد رياض وزيرًا للخارجية، بدلًا من فهمي، غير أنه لم تمض ساعات حتى كان خبر إعلان استقالة محمد رياض.
فيما بعد تم تعيين السفير محمد إبراهيم كامل وزيرًا للخارجية، لكنه لم يتحمّل البقاء في منصبه، واستقال بعد بضعة أشهر، مطلقًا صيحته المدوية ضد التطبيع في كتابه الشهير "السلام الضائع في كامب ديفيد". وكبار الجنرالات من مفاخر العسكرية المصرية، مثل الفريق سعد الدين الشاذلي والمشير عبد الغني الجمسي، لم يطيقوا البقاء في أماكنهم، فابتعدوا عن مستنقع التطبيع.
عربيًا، وفلسطينيًا، كان التورّط في التطبيع طوال الوقت مدعاة للخجل والأسى، حتى جاء زمن حسني مبارك، فاتخذ التعبير عن التطبيع شكلًا أكثر فجاجة، وأقلّ حياء، غير أنه لم يكن بالبجاحة والتدنّي الذي تراه الآن، وفي ذلك هناك القصة الشهيرة التي رواها الزميل الراحل أمجد ناصر، عن اللحظة التي أوشك فيها الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، أن يطفئ الأنوار ويهدم المسرح ويهرب من التوقيع على اتفاقية أوسلو 2 .
في مقاله سرد أمجد ناصر القصة كالتالي: أراد ياسر عرفات، في آخر لحظة، أن يحسِّن شروط الاتفاق، فامتنع عن التوقيع. كانت المنصّة جاهزة. الوفود الرسمية الفلسطينية والإسرائيلية والأميركية، فضلاً عن حسني مبارك وفريقه، تنتظر اللحظة غير التاريخية.
كانت الأوراق والأقلام على الطاولة، لكن الرجل الذي ينبغي أن يوقع هذه الأوراق المسمومة، بعدما سارع الإسرائيليون إلى توقيعها، تملَّص. هذا التكتيك العرفاتي، ذائع الصيت، أخرج، على ما يبدو، عرّاب التنازلات الفلسطينية، حسني مبارك، عن "طوره" فصرخ في وجه عرفات أمام ذهول الجميع: وقِّع يا كلب! .. طيَّرت وكالات الأنباء هذا الخبر (وقمت شخصياً بنشره نقلاً عن وكالة الصحافة الفرنسية)، لكن أبو عمار بلع الإهانة، و"كظم" الغيظ (كان يردّد في مجالسه هذه الآية: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) فنفى، والخارجية المصرية، الخبر جملةً وتفصيلا. بعد سنين على تلك الحادثة، أخبرنا أحد أعضاء الوفد المرافق لعرفات أن الحادثة حقيقية، لكن مبارك لم يقل لعرفات: وقِّع يا كلب، بل يا ابن الكلب!".
هذا ما رواه الزميل الشاعر، والشاهد من القصة أن التطبيع كان فعلًا ثقيل الوطء على الذات العربية، تأباه الروح، ويبتلعه الجسد مرغمًا. أما الآن فقد بلغنا مرحلةً بات معها التطبيع كأسًا يتصارع على حمْله، أو الشرب منه الرسميون العرب.
حكومات عربية تبدو مستمتعةً للغاية بالتطبيع، ليتحوّل ما كان سمًا زعافًا تتجرّعه الأنظمة الرسمية إكراهًا واضطرارًا، في زمن مضى، إلى مشروبٍ مفضل لدي الجيل الجديد من المطبّعين، كما هو حاصل مع حكام الإمارات والبحرين، إذ يبدو الأمر وكأن هؤلاء يتلذّذون بتناول التطبيع، بكل الطرق والوسائل، مع إصرارٍ عجيب على إظهار السعادة بالمذاق والنكهة وطلب المزيد، حتى صاروا في حالة سُكرٍ تطبيعي، تجعلهم يُقدمون على تصرّفات مجنونة، تصدم الصهيوني شخصيًا.
من تجليات اللوثة أن يصبح التطبيع هدفًا بذاته، غايةً يراق من أجلها ماء الوجوه، وتتعرّى الأرواح، ليصل هؤلاء إلى مرحلة "التطبيع من أجل التطبيع" مع ما يكتنفها من حالة نشوة تدفع المطبع إلى الذهاب بعيدًا في إعلان العداء لكل من يرفض التطبيع، بما في ذلك الشعب الفلسطيني نفسه، بل يمكن القول إن فيروس التطبيع قد تحوّر هو الآخر، واتخذ طورًا صار معه اصطفافًا صريحًا مع الاحتلال الصهيوني ضد كل من يرفضه.
في ذلك، وحسب المنشور في"العربي الجديد" الأسبوع الماضي، فإن نظام أبو ظبي صار يتسلح ويدعم ترسانته العسكرية من أجل إسرائيل، وليس ضدها، إذ تنقل الصحيفة عن مصادر في القاهرة أن الإمارات اقترحت على واشنطن، لكي توافق الأخيرة لها على صفقة طائرات F35 أن يتولى قيادتها طيارون من سلاح الجو الإسرائيلي، حتى تضمن تل أبيب أنها لن تكون ضدها، ثم تقوم الأخيرة بتدريب الطيارين الإماراتيين على قيادتها.
لو وضعت هذا الأمر بجوار التصدّع في العلاقات الرسمية بين القاهرة وأبو ظبي، ستدرك فداحة الخطر الوجودي الذي يحدق بمصر، عن طريق الحلف الإماراتي الصهيوني، الذي تشكل منذ العام 2013 لقتل الثورة المصرية، وتثبيت عبد الفتاح السيسي في الحكم ، والذي أعلن ولاءه منذ اليوم الأول لهذا الحلف الذي يهدّد ما تبقى من دور لمصر في المنطقة، ويحاصرها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، ويسعى إلى قطع أي ارتباط لها بالموضوع الفلسطيني.
غير أن مصر لم تعد تعرف مصر، أو تدرك وزنها ودورها، وها هي تتخبّط في التيه إلى الحد الذي تناقش معه سفيرتها السابقة ومرشحتها لليونسكو، مشيرة خطاب، إمكانية ضم إسرائيل لجامعة الدول العربية.
اللحظة تشبه لحظة النكبة الأولى، حين التهم الكيان الصهيوني فلسطين، وشرّد شعبها، فأدركت الشعوب العربية أن تحرير فلسطين يستلزم التحرّر من الاستعمار وعروشه، فاندفعت تطلب الاستقلال، وأظن أن من التدليس أن يتصوّر أحد أنه بالإمكان مساعدة فلسطين بمواجهة النكبة الثانية، قبل أن يتحرّر الإنسان العربي من الاستبداد وعروشه.