لجنة إصلاح...

05 نوفمبر 2017
+ الخط -
يُسمي السوريون السروالَ الداخلي "كَلْسُون"، وبصيغة الجمع يقال "كَلَاسين". سألني صديقي المناضل المخضرم، راشد الصطوف: هل حدثتُك عن لجنة الكلاسين؟ فاستبشرتُ خيراً بسماع حكاية ظريفة من حكايات راشد.
ضَمَّ مخطوط كتابي "كوميديا الاستبداد" فصلاً طريفاً عنوانه "رحلة راشد الصطوف"، وفيه أنه أمضى أربعَ عشرة سنة وخمسة أشهر في معتقلات حافظ الأسد ووريثه (من أبريل/ نيسان 1987، إلى نوفمبر/ تشرين الثاني 2001). في الفصل وقائع اعتقاله ونقله من فرع فلسطين إلى سجن تدمر، والآلام الفظيعة التي يتعرّض لها المعتقلون بشكل عام، والآلام الإضافية التي خَصُّوه بها، بعدما اغتصبَ أحدُ السجانين حذاءه الجديد (الكلاش) الذي كان يلبسه قبل الاعتقال، فلما احتج عليه وسأله: ليش أخذت مني الكلاش؟ غضب منه كلُّ السجانين الموجودين في السجن الصحراوي، دفعةً واحدة، وأذاقوه فنوناً من الرفس واللكم والضرب والسباب، وأصبح يُعرف، اعتباراً من تلك اللحظة، بلقب: أبو الكلاش.
قلت له: وما حكاية لجنة الكلاسين؟
قال راشد: المبدأ الأساسي في سجن تدمر هو الإغلاق، لا يوجد طير يطير ولا وحش يسير. الأبواب مغلقة، ويستحيل أن يُقَدِّمَ السجانون للمساجين شيئاً غير الاضطهاد. ولكن، بعد حوالي أربع سنوات من دخولنا السجن، يعني، على الأرجح في سنة 1991، وصل إلينا خبرٌ مفاده بأن كمية محدودة من القمصان الداخلية والكلاسين دخلت السجن، لأجلنا نحن، فابتهجنا إلى أقصى حدود الابتهاج، لأنه لا يوجد أحد في العالم غيرنا يستطيع أن يتخيل مآل ثيابنا الداخلية التي كنا نرتديها منذ ما قبل الاعتقال. وبدأ المساجين يحوصون ويتحركون ضمن الحيز المتاح لحركتهم، مؤملين أن تنتهي صلتهم بالثياب الداخلية الوسخة والمهترئة. وارتفعت وتيرة الحركة، عندما تأكدنا من أن الخبر صحيح، وأن الملابس سلمت إلى بعض المعتقلين، ليوزعوها على زملائهم. ولكن سعادة سجين "تَدْمُر" يستحيل أن تكتمل، إذ كان هناك أمران يجب أخذهما بعين الاعتبار. أولهما أن الكمية التي دخلت السجن محدودة، ويجدر بأصحاب العقل والحكمة الاقتصاد في استهلاكها. والثاني أنه قد تمر أربع سنوات أخرى، ولا تأتينا كلاسين جديدة. ولهذا نشط العقل الجماعي للسجناء، وتفتق عن فكرة تشكيل لجنة، تهتم بشؤون صيانة الكلاسين وترميمها، واستبعاد فكرة الاستبدال على نحو قاطع.
كان من أعضاء اللجنة مهندس مدني معيد في جامعة دمشق، وحامل إجازة في الاقتصاد من جامعة حلب، وصاحب ورشة قمصان من حمص. وللحقيقة والتاريخ، قامت اللجنة بالعمل المطلوب منها بكل نزاهة وأريحية، فكانت تجتمع بالسجين الذي يريد ترميم كلسونه على انفراد، وتفحص المنطقة المهترئة من كلسونه القديم على أشعة الشمس، ثم يتداول أعضاؤها فيما بينهم بالأمر، ويحدّدون المساحة التي لا يوجد بُدٌّ من استبدالها، ويقرّرون، مثلاً، قص قطعة أربعة سنتمترات مربعة من قميص أو كلسون جديد، وتقديمها للسجين، لكي يرقع بها كلسونه. وإذا زعم السجين بأن كلسونه أصبح أكثر اهتراء من قميص البخيلة التي حكى عنها الجاحظ "ليلى الناعطية" التي نظمت بيتاً من الشعر يلخص خبرتها الطويلة في الترقيع، فقالت: (ارْقَعْ قميصَكَ ما اهتديتَ لجيبهِ/ فإذا أضَلَّكَ جَيْبُهُ فاستبدلِ)، يصبح بإمكانه أن يعلن الغضب على اللجنة. واللجنة، بدورها، تمتص غضبه، ويفْهِمُه أحدُ أعضائها أنهم يشتغلون لأجل المصلحة العامة، وأن التبذير في منح الكلاسين الجديدة للسجناء سيؤدي إلى نفادها، وبقائهم ردحاً طويلاً بلا كلاسين، وهذا ما لا يرضاه السجين، ولا يرضاه العقل والمنطق. وعلى كل حال، المعيار المتبع لدى اللجنة يتعلق بسلامة الشاسيه (أي: القسم البلاستيكي الأعلى من الكلسون)، فإذا كان سليماً سنرضخ كلنا لحكمة الترميم والترقيع، وإذا كان الشاسيه مهترئاً فعلى الدنيا السلام. وعلى قولة معمر القذافي: الله غالب.. وقتها يُمْنَحُ السجين كلسوناً جديداً من بابه لمحرابه، وحبّة مسك في شاربيه الحلوين.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...