لبنان وحتمية الفراغ الرئاسي
كان الوجود السوري في لبنان يفرض انتخاباتٍ نيابيةٍ موجّهة، تنتج رئيساً يتوافق مع إرادة دمشق. وكانت الطبقة السياسية كلها رهينةً بيد ضبّاط الأمن في عنجر، ولم يكن ثمّة مجال لفراغ رئاسي أو أزمة حكومية، وجاءت إعادة انتخاب إميل لحّود رغماً عن رغبة رئيس وزراءٍ قويٍّ حينها؛ رفيق الحريري الذي حضر اجتماع مجلس النواب، لإعادة انتخاب لحّود، وقد ربط يده إلى عنقه، بعد أن قال إنها تعرّضت لكسر، فكانت كنايةً بارعةً من الحريري الذي أراد أن يقول، بطريقة مواربة، إن لحّود قد عاد إلى كرسي الرئاسة رغماً عن مجموعةٍ سياسيةٍ مهمة. أشارت هذه الحادثة إلى مدى قوة القرار السوري على السياسي اللبناني، وقبل مضي أقلّ من ثلاثة أشهر على الفترة الرئاسية الثانية للحّود، اغتيل رفيق الحريري في منتصف النهار وفي قلب العاصمة بيروت، مخلفاً كارثة سياسية هائلة ما زالت زوابعها تندلع.
جاء الفراغ الرئاسي الأول منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بعد فترة لحّود الثانية، وقد استمرّت ستة أشهر، انقسم فيها لبنان سياسياً بشكل حادّ، وعادة ما يزداد الانقسام بشدّة عند الاستحقاقات السياسية، مثل انتخاب مجلس النواب أو تشكيل الحكومة، ويتحوّل إلى شرخ كبير عند حلول موعد الانتخابات الرئاسية. جاء إلى قصر بعبدا بعد أشهر الفراغ الستة رئيسٌ توافَق عليه الفريقان، وهو قائد الجيش ميشال سليمان، ورئيس توافقي بالعرف اللبناني، هو رئيس تصريف أعمال، حيث عليه أن يمسك العصا من المنتصف بشكل دقيق، ما يؤدّي إلى تعطيل أحد أهم مراكز القرار اللبنانية. وصاحب هذا المركز مطالبٌ بالوقوف على مسافة متساوية من الجميع، وفق عملية "بهلوانية" تحتّم إبقاء كل شي على ما هو عليه، وتأجيل كل ما هو ملحّ، الأمر الذي يعني تكريس المشكلات ومفاقمتها انتظاراً للرئاسة التالية.
خرج الرئيس التوافقي، ميشال سليمان، من قصر بعبدا، وترك وراءه الفراغ الذي تجاوز الأشهر الستة بكثير، بما يتناسب مع حجم المسافة التي كانت تفصل بين الفِرق السياسية اللبنانية، فوصلت مدّة الفراغ الرئاسي بعده إلى ما يزيد عن 17 شهراً، من دون أن تشهد اختراقاً رغم التدخلات الكثيرة. وفي نهاية الأشهر السبعة عشر، تنازل أحد الأطراف لطرف آخر تفادياً لمزيدٍ من الفراغ، وأملاً في أن تكون هالة المنصب كافيةً لتضفي على شخص الرئيس النزاهة المطلوبة، وجرى انتخاب ميشال عون، قائد الجيش سابقاً الذي لعب دوراً في الحرب الأهلية اللبنانية، وجاء هذه المرّة بشعارات اقتصادية وإصلاحية عريضة، أغرت طيفاً لبنانياً واسعاً للسير خلفه، رغم تحالفه غير المطمئن مع حزب الله، وتقاربه الشديد وغير المبرّر مع إيران. ومن المفترض أن يكون اليوم الأحد هو آخر يوم لهذا الرئيس، وقد سجّل مجلس النواب أربعة اجتماعات انتهت إلى النتيجة ذاتها، عدم القدرة على انتخاب خلفٍ لعون، وستكرّر الدورة ذاتها التي أصبحت شبه تقليدية في هذا البلد، وهي: رئيس يليه فراغ ثم رئيس يليه فراغ جديد أطول. وباستقراء أولي، الفراغ الذي سيلي عون قد يتجاوز الأشهر السبعة عشر.
يعود تاريخ صدور الدستور الذي ينتخب لبنان بموجبه الرئيس إلى أكثر من 95 عاماً، وطرأت على هذا الدستور تعديلاتٌ كثيرة، منها المواد التي تخصّ الرئيس وصلاحياته، ولكن أسلوب الانتخاب عن طريق مجلس النواب ما زال كما أقرّه دستور عام 1925. أما حتمية انتماء الرئيس الطائفي إلى الموارنة فهو عرفٌ "إلزامي". وبالنسبة لعبارة الرئيس التوافقي فهي مطّاطة تَقبل التفسير الباطني على نطاق واسع. لذلك، الرئيس الذي ينصّ الدستور على طريقة انتخابه، وينصّ العرف على لون طائفته، ويتحكّم المزاج بميوله السياسية، في بيئةٍ سياسيةٍ لديها كثير من الارتباط الخارجي، قد يصعّب العثور عليه، ما يجعل الفراغ الرئاسي حتمياً.