لبنان وثورة أكتوبر "الإلكترونية"!
تجاوز لبنان الكيان المائة عام (1920) ولبنان المستقل (1943) احتفل بعيده الثامن والسبعين. الحدثان أسّسا للبنان الدولة التي نهضت بها طبقة سياسية من طبيعة وتكوين فكري وثقافي واجتماعي وديني متنوّع ومتعدّد، تضافرت قدراتها وجهودها ورغباتها وإراداتها لبناء تجربة فريدة في هذا الشرق، تُجسّد تاريخه وتساهم في صنع حضارته وتحاكي الغرب وتتفاعل مع حضارته وثقافته وتقدّمه وصونه الإنسان والحرّيات، وتمارس الديمقراطية وسيلةً وأداةً للسلطة ندر ظهورها في هذا الشرق. فكان منهم بشارة الخوري ورياض الصلح صانعا الاستقلال، وميشال شيحا واضع الدستور، ويوسف السودا واضع صيغة العيش المشترك، وحميد فرنجية مهندس الإبداع والأخلاق في السياسة، وكميل شمعون نموذج "الرئيس القوي" والنمو الاقتصادي، وكمال جنبلاط صاحب الرؤية الإنسانية والعدالة الاجتماعية، وصائب سلام زعيم الشارع وهموم الناس، وفؤاد شهاب باني أسس الدولة الحديثة، وشارل مالك المشارك في وضع شرعة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. وإنما منهم أيضاً جورج نقاش الذي أطلق في المقابل قوله "نفيان لا يصنعان أمة"، قاصداً الفكرة التي كانت في أساس قيام دولة لبنان، والتي التقى حولها المسلمون بتخلّيهم عن فكرة دولة الوحدة السورية مقابل تخلّي المسيحيين عن الانتداب الفرنسي، وغيره وغيره شخصيات كثر. اعتقد هؤلاء وآمنوا بأن لبنان تجربة تستحق الحياة، وتستحق أن تكون نموذجاً للعيش المشترك والتفاعل بين مكوناته السياسية والثقافية والطوائفية، المتعدّدة والمتنوعة، المختلفة والمتساوية في آن واحد، على ما كان يردد سمير فرنجية، ابن الرعيل الثاني.
الرفض الفوضوي والعشوائي المطلق لكل ما حملته تجربة نحو أكثر من ثلاثين سنة من حكم طبقة سياسية بنت لبنان الحديث، ساهم في الانزلاق السريع والدخول في أتون الحرب العبثية
خيضت هذه التجربة بكل جوانبها، ومورست فيها بشكلٍ ديمقراطي الحياة السياسية التي تجاذبها حزبان اندثرا اليوم، الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية، انضم إليهما وانتظم في المنافسة بينهما على حكم البلد معظم السياسيين والنواب الذين توزّعوا على المناطق والطوائف كافة، وكان العمل البرلماني والتشريع من أكثر الممارسات نجاحاً ورقياً، فكان النائب المشرّع وصاحب الحجّة تتداول اسمه ألسنة الناس أسابيع. وكانت هناك معارضة تمارس حقها وتخوض معاركها، في البرلمان وفي الشارع، وتتمكّن أحياناً من فرض ما تريد. ويجري أحياناً إسقاط الحكومات بفارق أصوات قليلة، كذلك فإنه في إحدى المرات عام 1970 انتُخب سليمان فرنجية (الجد) رئيساً للجمهورية بفارق صوت واحد عن منافسه، غير أن هذا لا يعني أن هذه التجربة لم تتخلّلها خيبات، ولم تواجه عثرات وأزمات، وانتهت إلى حروب، ليس هنا المجال للخوض في تفاصيلها وأسبابها الداخلية والخارجية. أصاب هؤلاء السياسيون وأخطأوا وارتكبوا حماقات، من أهمها التفاوت الصارخ في التمييزين، الاجتماعي والإنمائي، بين المناطق، وعدم إحداث نوع من التوازن في تركيبة السلطة، بحيث يُقلَّل من صلاحيات رئيس الجمهورية التي كانت شبه مطلقة. أما الداخلي - الخارجي الأكثر حساسية، فكان "اتفاق القاهرة" الذي وُقِّع عام 1969 بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، والذي شرّع الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان والعمليات الفدائية من الأراضي اللبنانية، انطلاقاً من قراءة وحسابات خاطئة لتلك المرحلة ما بعد حرب 1967. ومع ذلك، لم يتخلّ أحد عن فكرة لبنان الدولة الحرّة المستقلة، ولم يرتهن أحد للخارج، ولم يتورّط أحد في فضائح فساد وإفساد ونهب للدولة وتكديس الملايين، وكل الشائعات التي طاولت في مراحل متعدّدة هذا السياسي أو ذاك، وفي مقدمها شعار "فلتسقط طغمة الـ 4%" الذي كان يتصدّر التظاهرات والاحتجاجات الشعبية والمطلبية في بداية السبعينيات، والذي كان يقصد به يومها أن أركان السلطة قد استولوا على ثروات البلد ونهبوا خيراته، ثبت أنها كانت شعارات شعبوية وغوغائية. تلك الغوغائية، وذلك الرفض الفوضوي والعشوائي المطلق لكل ما حملته تجربة نحو أكثر من ثلاثين سنة من حكم طبقة سياسية بنت لبنان الحديث، قد ساهم في الانزلاق السريع والدخول في أتون الحرب العبثية التي دمرت كل ما تمّ بناؤه بدل الاستفادة منه والبناء عليه.
الخوف من أن تكون "ثورة أكتوبر" 2019، أو الانتفاضة الشعبية العارمة، تشبه حالة الغضب والرفض التي سادت في السبعينيات
أما اليوم، فالخوف من أن تكون "ثورة أكتوبر" 2019، أو الانتفاضة الشعبية العارمة، تشبه حالة الغضب والرفض التي سادت في السبعينيات، وأدّت إلى ما أدّت إليه. لا شك في أن السلطة التي يواجهها شباب اليوم، واللبنانيون بشكل عام، لا تُقارن بسنين ضوئية مع سلطة تلك المرحلة، فهي من السوء والبشاعة والجشع والوقاحة والفساد والتبعية والارتهان إلى درجة أنه لا تصحّ مقارنتها بأي سلطة. فريق استباح كل شيء، نهب البلد ودمّر مؤسساته، وشلّ قطاعاته التي كان لبنان يفاخر بها من نظام مصرفي إلى صروح علمية جامعية ومواقع سياحية ومراكز طبية استشفائية. وبات اللبنانيون اليوم يترحمون على تلك الطبقة السياسية التي عارضوها وثاروا عليها في السبعينيات! فريق ركبه الاحتلال السوري وفرضه وثبته في بداية التسعينيات، فكانت انتفاضة 14 آذار مجرّد لحظة عابرة في تاريخ لبنان، تمكّنت من إخراج الجيش السوري إثر اغتيال رفيق الحريري لم تدم أكثر من بضع سنوات، ثم حل الاحتلال الإيراني محل الاحتلال السوري، وعوّم فريق السلطة مجدّداً، ودجّنه وطوّعه. وهو اليوم يحميه ويرهبه، في الوقت عينه، بسلاح حزب الله، فريقٌ يواجه بالتكافل والتضامن ثورة الشارع لإدراكه أنها تستهدفهم جميعاً، من دون أن ينسوا صراعهم فيما بينهم على مغانم السلطة التي ترك لهم منها حزب الله الكراسي ليتقاتلوا عليها، فيما هو يمسك بقرار الدولة. إنها معادلة مافياوية - ماكيافلية، تتداخل وتتشابك فيها الحسابات والمصالح، وتصبح مواجهتها مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد. وعلى الرغم من الفضائح التي تفوح في كل الاتجاهات، والانهيارات الاقتصادية والمالية والمعيشية والصحية والخدماتية التي سبّبها هذا الفريق، فهو ما زال قابعاً منذ أكثر من سنتين، لم يهزّه حتى أكبر تفجير غير نووي لمرفأ بيروت، أوقع أكثر من 220 ضحية، ودمّر نصف العاصمة، وشرّد أكثر من ثلاثمئة ألف شخص. وبعد أن حوّل البلد إلى ما يشبه الهيكل العظمي، يواجه هذا الفريق الشارع بالعصا والجزرة، يلوّح للناس بالمساعدات، وبطاقات التموين والتمويل ويبتزّها بلقمة عيشها وبحاجاتها اليومية من كهرباء وبنزين ووقود. يركّب حكومات ويبدّل أخرى، ويتلطّى وراء شخوص - وزراء "مستقلين" و"اختصاصيين" يحرّك الحكومة من خلالهم. يُصدر قرارات ويتراجع عنها، متلاعباً بأعصاب اللبنانيين..
حراك "17 أكتوبر" لا يزال يرفع شعارات إصلاحية مطلبية ضد الفساد والفاسدين، ولكنها تتجنّب مقاربة المشكلة الحقيقية السياسية بامتياز، وهي أن البلد منقوص السيادة
فكيف يمكن ثورةً أو انتفاضةً أو أي تحرّك شعبي أن ينجح في إسقاط سلطة مخضرمة ومتجبّرة كهذه، يديرها زعماء حرب سابقون ومليشيات مسلحة، بأساليب باتت أقرب إلى احتجاجاتٍ تحوّلت بعد عدة أشهر من الزخم الشعبي والشامل إلى مجرّد تعبير عن الرأي، برفع شعاراتٍ في بعض الشوارع والساحات، إذا لم نقل إنها صارت تشبه أحياناً احتفالاتٍ فولكلورية تمارسها بعض المجموعات بأعداد متواضعة. وتتحرّك كل مجموعةٍ بمفردها وبشعاراتها، وقد أصبح عدد المجموعات بالمئات، ولكل منها أسلوبه ومطالبه وخططه التي تختلف عن الأخرى، وأحياناً تتصادم معها. وهي لم تتمكّن من تشكيل قيادةٍ موحّدة أو إطار تنسيقي لتوحيد الرؤية والجهود المبعثرة التي يسهل على السلطة اختراقها، إذ إن أفظع وأبشع ما قامت به هو مثلا شقّ صفوف لجنة أهالي ضحايا المرفأ الذين كانوا يتحرّكون ويساندون المحقق العدلي المكلف التحقيق في الجريمة، وإيجاد لجنة موازية.
هذا التفكّك وشبه الفردية في التعاطي والتحرّك يعكسان عقلية (وواقع) شباب اليوم الذي استولت التكنولوجيا على نمط تفكيره ونهجه وأسلوبه "شبه الآلي"، معتقداً ربما أن في الوسع أن تُصنع الثورة أو التغيير كما يمارس لعبة "بلاي ستيشن"، ويحرّك أشخاصها ويصنع أدوارهم! كذلك فإن قراءة الواقع السياسي وتصويب الهدف بدقة يغيبان أيضاً عن رؤيته في تحديد الأولويات، ولا يفقه أن النضال السياسي يحتاح إلى تكتيك وعمل تراكمي ومتدرّج يمهد لتحقيق الهدف، فهو يريد إسقاط كل شيء مرّة واحدة وفي التوقيت ذاته (شعار "كلّن يعني كلّن"). وعلى الرغم من مضي سنتين على هذا الحراك الرائع وغير المسبوق، إلا أن وجوه هذه الهبّة وأشخاصها وناشطيها لم يتمكّنوا من وضع برنامج مشترك، يتضمّن أهدافاً واضحة ومحدّدة، ليتابعوا المواجهة على أساسها، كما فعلت انتفاضة 14 آذار (2005) التي حدّدت هدفين رئيسيين، وتمكّنت من تحقيقهما، هما انسحاب الجيش السوري وإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للتحقيق في جريمة اغتيال رفيق الحريري. ولكن الخطأ الأهم أن حراك "17 أكتوبر" كان لا يزال يرفع شعارات إصلاحية مطلبية ضد الفساد والفاسدين، محقّة طبعاً، ولكنها كانت لا ترى، أو تتجنّب مقاربة المشكلة الحقيقية السياسية بامتياز، وهي أن البلد منقوص السيادة، وقراره مخطوفٌ ومستتبعٌ لفريق ومحور خارجي. علماً أن قائد حزب الله، حسن نصرالله، واجه منذ اليوم الأول المنتفضين، منذراً بأنه لن يسمح بإسقاط الحكومة، وباستقالة رئيس الجمهورية التي اكتشف علمها يومها، ووقف مدافعاً عن نظامها، وهو من أرسل يومها عناصره المسلحة لتكسير الخيم وإحراقها والاعتداء على المتظاهرين السلميين، أي إنه كان يقول لهم إنه هو السلطة! فهل ينجحون في تصويب البوصلة والأداء قبل فوات الأوان؟!