لبنان وثقافة "الدبكة"

06 سبتمبر 2022

(محمد المفتي)

+ الخط -

لعل من المنصف القول إن السلطة اللبنانية يمكنها أن تسجّل رقمًا قياسيًا لسرعتها في تحويل أصعب القضايا، وأكثرها إشكالية، إلى حلقة من الدبكة. بكثير من البساطة، تستطيع السلطة تحويل الأزمات إلى حلقةٍ فارغةٍ تحكمها حركة رتيبة وتغلفها الخفّة. هذا ما تقوم به القوى المهيمنة على البلد، وعلى مختلف قضاياه واستحقاقاته، لاسيما في تصوّر العدو، وتصوّر نوع الصراع معه وآليته ومنطقه، فيحتكره حزب الله وحلفاؤه وفقًا للفلكلور الذي يرونه هم مناسبًا، بمعاييرهم ومعادلاتهم ومقاييسهم وأبعادهم.
على سبيل المثال، تأتي رحلة كل من وزير الطاقة وليد فياض ووزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجّار، إلى الحدود المتاخمة للأراضي المحتلة، أنموذجا صارخا لهذه الفلكلورية. فالأول مسؤول عن ملفات وزارة الطاقة، ولبنان في عهده قابع في ظلام دامس. والثاني تجاوز عهده مختلف مستويات الانهيار الاجتماعية، من دون أي حل، لربما كان الفشل في ملف البطاقة التمويلية أبرز إنجازاته. ما يعني أن كل ما حققاه لا يتخطى كونه فشلًا متحققًا انعكس في إخفاقهما في تحديد المشكلات أولًا، قبل أن يُستكمل إخفاقًا في معالجة تلك المشكلات ثانيًا.
أن ترافقهما في رحلتهما إلى الحدود المتاخمة للأراضي المحتلة، فيرميان حجارة على العدو، بهذا الشكل الشعبوي الفارغ من أي مضمون، نموذج عن الدبكة التي نتكلم عنها، سيرك بالأكثر، هو تهريج في عمل بهلواني من النوع الرديء. هو تحويل قضية الصراع مع العدو، في الوعي اللبناني وفي وعي ذلك العدو، من قضية في مصافّ القضايا المركزية إلى حلقة دبكة تحكمها خطوات روتينية مملة ورتيبة، ويؤديها عقل بليد تهيمن عليه مخيلة ضحلة.

مشهد وزيرين لبنانيين يرميان حجارة عند الحدود الجنوبية إساءة إلى نموذج رمي الحجارة

لقد استطاع طرف الممانعة في المحيط عمومًا، وفي لبنان خصوصًا، تحويل الصراع من شكله الواضح والمباشر، شكله الأصيل كمشكلة فعلية بحاجة لتفكير جدّي يتحلّى بقدرٍ كافٍ من المسؤولية، إلى قضية استنسابية تتسع أكمامها أحيانًا، وتُعالج أطرافها أحيانًا أخرى، لكنها لم يُصادف أن كانت بالقياس المركزي الذي يحاول مصادروها إقناع الجمهور به، وليس في العمق الإنساني الذي يفترض أن تذخر به، وبقيمه.
لا يفهمن أحدٌ أننا من دعاة البعد الواحد لهذا النوع من الصراعات، بل نعرف أنه صراعٌ بأبعاد مختلفة ومتكاملة، لا يبدأ من المسلّح، ولا ينتهي بالصراع على تصوّر الحياة والعيش والحب والرقص والفرح والصخب.. وصولًا إلى العبث. لكن أن يتم الترميز إلى الصراع برمي الحجارة، من وزيرين أقل ما يقال فيهما فشلهما في إدارة كل ملفاتهما، وأن يجري التركيز على هذا البُعد، بعد كل ما شاهدناه من استبداد وتنكيل واضطهاد للناس باسم القضية، وبعد كل السكوت عن الغارات الإسرائيلية على مختلف المواقع والأراضي، وصولًا إلى مطارات الدول المحيطة والأنظمة المتنطحة من السوري إلى الإيراني، يصبح المشهد إساءة إلى نموذج رمي الحجارة قبل أن يكون إساءة متمثلة بالهدف من تحويل هذا الصراع إلى مستوى طقسي لا يقدّم ولا يؤخّر، مستوى لا يؤثّر بالمعادلة بقدر ما يسطّح الوعي والمشهدية خلال صناعة المحتوى.
يحوي الصراع مع مطلق عدو صراعات متعددة. هذا ما لا نجادل بشأنه. لكن الأهم هو المستوى الذي يرتفع ويسمو ليكون بمثابة غذاء للمخيّلة، أنموذجًا، خصوصًا في الأراضي التي كانت تحت الاحتلال في السابق. كأن يتحوّل الصراع من كونه صراعًا مسلحًا فحسب، إلى أن يصبح سرديةً ورواية جديدة، أو تصبح تلقّفًا جديدًا للتفاصيل والصيغ والسياقات، خلطة جديدة للمكان والتاريخ ولتصور علاقتهما وتشابكاتهما، فيتحوّل النموذج على مستواه الرمزي إلى قدرة على إنتاج الكهرباء، وإلى نوع من التضامن والتكافل الاجتماعي، وإلى ديناميات تطوير المجتمع وحمايته وتحرير إنسانه.

الفلكلورية لم تكن حكرًا على السلطة فحسب، بل امتدت لتهيمن على وعي حركات التغيير اللبنانية كذلك

لكن أن تتحوّل هذه القضية إلى مجرّد حركات بهلوانية تكاد تكون مسلسلًا مضحكًا لعدوٍّ يمتلك من التقنيات المتقدّمة، والقدرات الاستثنائية على إنتاج المعرفة والبحث العلمي والتطوير المجتمعي بشكلٍ يتخطّى المجتمعات العربية المحيطة قاطبة، فهذا ليس تفصيلًا على الإطلاق. إن لم تكن السلطات الداخلية تهدف إلى تنظيم الحياة الاجتماعية وتطويرها، فلن تكون الغاية من سلطانها إلا إعاقة المجتمع، كله بهدف المحافظة على لحظتها الراهنة التي سرعان ما تنزلق لتصبح تقهقرًا. فأن تحوّل الشعوب المحيطة من شعوب تطرح الأسئلة إلى شعوب تركن وتسلّم بالاعتقادات والبديهيات، وتجيد غزارة التصفيق لما يجري أمامها في المشهد، خصوصًا لهذا النوع من الوزراء في المشهد، لهو قمة التداعي.
إلا أن الفلكلورية لم تكن حكرًا على السلطة فحسب، بل امتدت لتهيمن على وعي حركات التغيير اللبنانية كذلك، وذلك حينما هيمنت المنظمات غير الحكومية والمجموعات المدنية عليها، بآليات عملها وبمنطقها، تلك المُصابة بداء السلطة والمشهدية كذلك، وهي التي دعت بالانتفاضة إلى سلسلة بشرية على طول خط سكة حديد القطار الساحلية المتآكلة، بما يعكس مشهد لحلقة دبكةٍ لكن بدون حركة. كما وأنها استطاعت تحويل الانتفاضة إلى مجرّد حلقات دبكة ورقص متصلة، قبل أن تنتهي بتعويم النظام في الانتخابات الأخيرة. وهي المنظمات نفسها التي حوّلت جريمة بحجم انفجار مرفأ بيروت إلى مشروع لكسب التمويل، إما لتشييد نصب تذكاري من هنا، أو لتحرّك رمزي من هناك، وكلها بهدف تحويلها إلى ذكرى.
إنها ثقافة تحويل كل شيء إلى حلقة دبكة، إلى فلكلور لا يعود الصراع معه صراعًا، ولا رمي الحجارة رميًا للحجارة، ولا الهزيمة هزيمةً، ولا الثورة ثورةً، ولا الانتصار انتصارًا، فكلها تفتقر ليس إلى أنموذج تهتدي به، بل تفتقر، على علّاتها، إلى القدرة على أن تكون أنموذج وغاية نفسها، بقدر ما تكتسب القدرة على التحول إلى حلقة جديدة من الدبكة "الوطنية" في نهاية المطاف.