لبنان .. لا قعر للانهيار
مظاهر الانهيار في لبنان كثيرة. حقيقة هي أكثر من أن تُعدّ وتُحصى. كل ما في هذه البلاد يتراجع إلى الوراء مراحل ودرجات. أينما اتجهت الأنظار تطلّ فصولٌ من الكارثة. بعضها ظاهر للعيان أو بشكل أدقّ يشكل معاناة جَمعية، يشترك فيها كل اللبنانيين. الدولة التي هدرت مئات مليارات الدولارات بذريعة تأمين الكهرباء 24 ساعة على 24 ساعة، عاجزة عن تأمين أكثر من ساعة تغذيةٍ واحدةٍ للمواطنين. أما أصحاب المولّدات فيتفننون في إذلال كل من هم تحت رحمتهم، بذريعة عدم القدرة على تأمين مادة المازوت، لأن التسعيرة الحالية لا تناسبهم. بلا كهرباء تتعطّل الحياة. تزداد بؤساً وتنعدم معها الخيارات. مذلّة أخرى طوابير تعبئة السيارات بالوقود. من كان محظياً لديه "خط عسكري"، فلا ينتظر أكثر من دقائق معدودات. ومن كان بلا أي واسطة معدل انتظاره لا يقلّ عن ساعتين يومياً في طابور يخيّل للناظر إليه أنه يمتدّ على مساحة لبنان. أما الدواء فحكاية أخرى. أصبح اللبناني، بدون أي مبالغةٍ، يعرف أسماء مئات الصيدليات على الأراضي اللبنانية، بعدما كانت تقتصر معرفته بأسماء التي تحيط به. علبة دواء واحدة باتت تتطلب عشرات الاتصالات العابرة للمناطق، على أمل العثور عليها. ذلك كله، وهذا البلد لا يزال يشهد أولى مراحل رفع الدعم فقط. أي أن كل المعاناة والإذلال بروفا لما سيأتي لاحقاً.
على مدى أكثر من عام ونصف العام من عمر الأزمة المالية والاقتصادية، بعد اتفاق السياسيين والمصرفيين على تدفيع ثمنها للمواطنين حصراً، شهد لبنان ارتفاعاً خيالياً في الأسعار. تحوّلت سلع عديدة لم تغب يوماً عن منازل اللبنانيين إلى عملةٍ نادرة، فقط تحضر لدى من استطاع إليها سبيلاً. مع ذلك، بقيت أسعار الخبز والأدوية والطبابة مدعومة ولو جزئياً. لم تطاولها الزيادات على قدر ارتفاع سعر صرف الدولار. اليوم تغطّي السلطة السياسية رفع الدعم عنها. لم تعد المفاضلة بين أولويات وكماليات، بل يتعلق الأمر بقوت يوم اللبنانيين. جزء يسير من رواتب اللبنانيين لم يعد يساوي أكثر من ثمن غالون زيت للطهي، وبضعة لترات من المازوت والبنزين، وعلبة لبنة ومثلها من الجبن، وثمن بضع مواد أخرى لا تكفي لأيام. ثم تأتي الدولة وتمنّ عليهم ببطاقة تموينية موعودة هي أشبه ببطاقة انتخابية قبل أشهر من موعد الاستحقاق المنتظر.
تتعدّد الأسئلة إزاء كل ما يجري. يمكن على مدار اليوم سماع صرخاتٍ من مواطنين غاضبين وتساؤلاتٍ عن أسباب عدم الخروج إلى الشارع، من دون أن يبدي أي من السائلين حماسة للتحرّك بنفسه. ويمكن سماع أيضاً آراء مستسلمة لمن كانوا في الشارع طوال أشهر. مع ذلك، يدرك الجميع أن هناك معركة في الشارع يجب أن تُخاض، لكن المشكلة بشأن من يخوضها وكيف.
عندما يتفجر الغضب الشعبي، خصوصاً بشقّيه، الاجتماعي والاقتصادي، يكون في العادة تلقائياً، بلا تنظيم، ثم تلي ذلك محاولات لإدارته. على الأقل، هذا ما جرى في لبنان إبّان انتفاضة 17 تشرين (2019). في الأيام الأولى للتحرّكات، كانت العفوية هي الطاغية. ضاق مواطنون ذرعاً بتحمّل كل ما يجري، من رؤية رغبة الدولة في نهبهم إلى ما لا نهاية، التضخّم الذي يأكل رواتبهم، سطو المصارف على مدّخراتهم.. كان الشارع يومها مليئاً بفئات واسعة من اللبنانيين، ناشطين، موظفين ينتمون للطبقات الفقيرة، وما كانت تسمى "الوسطى". بعدها تعدّدت الساحات والمتطفلون من دون أن تتوقف الاحتجاجات ومحاولات القمع. وترافق ذلك كله مع تعثر في التنظيم وتقديم البديل. تحوّل الاحتجاج في الشارع إلى هدفٍ بحد ذاته، وكأن المطلوب فقط الاعتراض. استطاعت السلطة استيعاب ما تعرّضت له سريعاً، أعادت ترتيب صفوفها وأوراقها، بدأت توجّه ضرباتها، أُنهك الجميع وتراجع، بينما تقدّمت هي لاستكمال مخطّطاتها، فيما يغرق اللبنانيون في الجحيم.