لبنان... رئيس من الشعب

18 سبتمبر 2023
+ الخط -

بينما يستمرّ فشل جلسات البرلمان اللبناني الخاصة بانتخاب رئيسٍ للجمهورية بتحقيق هدفها، تأتي دعوة رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، إلى الحوار بين الأفرقاء اللبنانيين، من أجل التوافق على مرشحٍ يكون مقبولاً لدى جميع الأطراف، لتؤكد جمود هذا الملف، وإمكانية استمرار الفراغ الرئاسي فترة غير معلومة. وإذ تُبين المعطيات والتصريحات التي يُدلي بها ساسة لبنان في الموضوع استمرار الخلافات التي تحول دون ذلك الانتخاب، بسبب التجاذبات والاستقطابات الحادّة وتضارب مصالح الأفرقاء، تظهر الحاجة لآلية مختلفة لانتخاب رئيس، ربما أفضلها انتخاب الرئيس اللبناني من الشعب مباشرة وعبر الاقتراع العام، أسوة بأغلب الدول، تجنباً لمنزلقات اعتادت الظهور مع كل استحقاق رئاسي، غير أن النص الدستوري الذي حصر انتخابه بمجلس النواب، فضلاً عن النظام السياسي المستند إلى صيغة حكم تعتمد التوافق والتعايش المشترك بين الطوائف، يَحوْلان دون مجرد طرح هذا الموضوع، ما يجعل هذه المشكلة قابلة للتكرار كلّ ست سنوات، هي الفترة التي تدوم فيها رئاسة الرئيس.
ولهذا السبب، وعلى الرغم من ضرورته لمنع الفراغ الرئاسي وشلّ البلاد سياسياً واقتصادياً وشلّ عمل مؤسّساتها، لم يطرح أحد من الأحزاب والقوى السياسية هذا الأمر، لمعرفتها المسبقة باستحالته، نتيجة تجذّر الصيغة اللبنانية الطائفية التي تشكّل النظام اللبناني، والتي يقوم لبنان الحديث على أساسها، وهي التي تراعي التوازن الطائفي في البلاد، وتضمن عدم غلبة طائفةٍ على أخرى سياسياً نتيجة اختلال التوازن الديمغرافي بين المسلمين والمسيحيين. كما يمنع ذلك عدم تنفيذ بندين مهمين وردا في اتفاق الطائف 1989: مهمة إلغاء الطائفية السياسية من الإدارات ومؤسسات الدولة العامة. ووضع قانون انتخاب عصري يعتمد لبنان دائرة واحدة، واعتماد النسبية خارج القيد الطائفي. قطع عدم تطبيق هذين البندين الأمل بالمطالبة بانتخاب رئيس للجمهورية مباشرة من الشعب، كونه ألغى مسار وصول لبنان إلى دولةٍ مدنيةٍ يكون الولاء فيها للوطن، وليس لزعيم الطائفة أو الحزب، كما هو قائم حالياً.

معروف أن الدولة اللبنانية بأفرقائها من زعماء الطوائف قد درجوا على الدعوة إلى الحوار كلما ألمَّت بسلطتهم ملمَّة

يُعدُّ الانتخاب من الشعب حلاً للتأزّم الذي يتكرّر كل ست سنوات مع انتهاء ولاية الرئيس. كما أنه يُعدُّ مخرجاً للأفرقاء والقوى السياسية الحاكمة ذاتها من الخوض الدائم في تأمين النصاب اللازم لانعقاد جلسة الانتخاب، ثم ضمان المرشّح فوزه بأكثرية ثلثي الأصوات، وغيرها من الإجراءات المعقدة لضمان الانتخاب. إضافة إلى ذلك يُعدُّ مخرجاً لهم من تأمين التوافق المُتَمَنِّع، في ظل الاستقطاب الإقليمي والدولي الذي يخضع له أقطاب النظام اللبناني، والذي يفرض عليهم الخضوع لإرادة القوى الإقليمية والدولية من أجل ضمان مصالح هذه القوى ونفوذها في مؤسّسات الحكم اللبنانية. ولأن الانتخاب عن طريق البرلمان قد صار مولِّداً للصراعات السياسية بين أقطاب النظام وزعماء طوائفه، ومزكياً لنارها الباقية دائماً تحت رماد التوافق والتعايش الطائفي المفروض، وكذلك مهدّداً دائماً للبلاد بالانزلاق نحو شفير اقتتال أهلي، أو ربما حرب طائفية، فإن الانتخاب من الشعب يجنّب البلاد هذه المخاطر المتكررة.
أما وقد وصل التجاذب والاستقطاب والصراع على خلفية انتخاب رئيس للجمهورية إلى أوجه، جاءت دعوة نبيه برّي إلى الحوار سبعة أيام خلال سبتمبر/ أيلول الجاري، قبل عقد جلسات برلمانية جديدة لانتخاب رئيس، بسبب الضرورة، وربما منعاً لحرب من هذا القبيل، ربما يكون برّي قد استشعر مخاطرها بحكم خبرته بمسبّبات الحروب الأهلية، إلا أن هذه الدعوة تذكّرنا بالعرف الذي انتشر على شكل نكتة في أقطار عربية شتّى، "إذا أردت أن تُفشل عملاً شكل له لجنة للمتابعة". ومعروف أن الدولة اللبنانية، بأفرقائها من زعماء الطوائف قد درجوا على الدعوة إلى الحوار كلما ألمَّت بسلطتهم ملمَّة من قبيل مظاهرة احتجاجية ومطلبية أو حصول خلل في التوافق حول حصص هؤلاء الأفرقاء من كل كعكة. وعادة ما يكون حوارهم بدافع الوقوف على أسباب حدوث مشكلةٍ للبحث في إيجاد طريقة لحلها، مع العلم أن الحل من البديهيات وبمتناول مؤسّسات الدولة، لكن هذه السلطة تمتنع عنه، وهي التي ليس لديها عمل سوى توليد المشكلات وتأبيد القائم منها.

مع اكتشاف أن معالم خريطة الطريق ليست واضحة بعد لدى الفرنسيين، برز الدور القطري الذي يحاول التوفيق بين طرح كل الأطراف الدولية

في ظل هذا الجو من الانغلاق السياسي، نرى كيف يلاقي أي تدخّل خارجي لحسم الملف الرئاسي قبولاً وترحيباً من جميع الأفرقاء اللبنانيين، وهم المعتادون على التدخّل الخارجي لحسم خلافاتهم، على عكس أي دولة أخرى، والتي تصنّف هذا الأمر بمثابة التدخل السافر في شؤونها. لذلك نرى تقاطُر الجميع إلى طاولة المبعوث الفرنسي، جان إيف لودريان، الذي تكرّرت زياراته الاستكشافية لبنان للقاء جميع الأطراف من أجل تكوين رؤية واضحة بشأن كيفية حسم ملف الرئاسة، على الرغم من اتهام كثيرين باريس بعدم حياديتها، حين تبنّت ترشيح قائد تيار المردة، سليمان فرنجية. ولاقى ترشيحُه رفضاً من الولايات المتحدة والسعودية وبعض القوى الداخلية بسبب قربه من إيران وسورية، وتبنّي الثنائي الشيعي، أمل وحزب الله، ترشيحه وإصرارهم عليه. وعلى الرغم من خوف الفرنسيين من مواجهة لبنان خطر الزوال الذي عبر عنه لودريان بعد انفجار مرفأ بيروت سنة 2020، وزياراتهم التي لم تتوقّف بعد الانفجار، وتشكيلهم خلية أزمة عن لبنان في باريس، تتهمهم بعض الأطراف بالضياع، وتزيد في الأمر حين تتهمهم بغياب الرؤية الإصلاحية، وهم الذين اشترطوا على الطبقة السياسية إجراء إصلاحاتٍ من أجل توفير الدعم والقروض للبنان.
في هذا الوقت، ومع اكتشاف أن معالم خريطة الطريق ليست واضحة بعد لدى الفرنسيين، والتي تجسَّدت توتراً على ملامح لودريان مع كل زيارة للبنان، برز الدور القطري الذي يحاول التوفيق بين طرح كل الأطراف الدولية، باريس وواشنطن والرياض وطهران، علاوة على الأطراف المحلية. وإذ يُؤمل أن ينتج عن هذا الدور توافق ما، من غير المؤكد أن يطبق هذا التوافق على الأرض اللبنانية بسبب التعنّت لفرض مرشّح الثنائي. عندها قد يستمر الفراغ سنوات، ولا يكون في يد أبناء الشعب اللبناني سوى العودة إلى الساحات للمطالبة بالدولة المدنية، وإعادة رفع الشعار الموؤود: "كلّن يعني كلّن".

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.